أفكار حول «مكانية الموسيقى» و«الطيف الصوتى» من «باخ» إلى طرب زكريا أحمد - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 12:12 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أفكار حول «مكانية الموسيقى» و«الطيف الصوتى» من «باخ» إلى طرب زكريا أحمد

د. نهلة مطر
نشر في: السبت 23 فبراير 2019 - 10:37 ص | آخر تحديث: السبت 23 فبراير 2019 - 11:25 ص

الموسيقى هى حركة صوت فى الزمن، لأن كل نغمة موسيقية ما هى إلا عدد من الذبذبات فى الثانية الواحدة. وخلق مفارقة استاتيكية الموسيقى، بمعنى أن تسمع موسيقى لا تتحرك، فيصبح المكان الموسيقى (أى كينونة وماهية الصوت) الشىء الممتد فيها لا الزمن نفسه، تقنية لا يمتلكها إلا القليل. قد يُهيأ لشخص به رعونة أن خلق مثل هذه الحالة أمر سهل ومفعوله أكيد، لكن خلود مثل هذه الحالات ليس أكيدا.
عندما ندرس الصوت أو الموسيقى، لا نستطيع إلا التركيز فقط على حالة واحدة منه، عكس الاستماع والاستمتاع به. فحين ندرس تدفق الصوت عبر الزمن لا يمكن أن نغوص فى المكونات الداخلية للصوت. الحالة الأولى هى «زمانية الموسيقى» وفيها نستمتع بالألحان. الحالة الثانية هى «مكانية الموسيقى» حين نستمتع بلون النغمة الواحدة أو ما يُسمى بالطيف الصوتى. والطيف الصوتى إذًا هو معرفة تركيب الصوت الواحد، حيث يتكون من أصوات حبيبية صغيرة بترددات منبثقة من تردد الصوت الأساسى وبتفاوت فى شدة الصوت.
وكلمة «باخ» فى اللغة الألمانية تعنى الغدير، ويوهان هو من كتب له الخلود فعلا من أسرة موسيقية أبا عن جد. ومن عجائب القدر أن من بين أولاده الموسيقيين، كلا من يوهان كريستيان وكارل فيلب، اللذين تمتعا بقبول جماهيرى آنذاك... كانا يقولان له: «إنت دقة قديمة يا بابا».
والطيف الصوتى هو مبدأ الحدوتة الموسيقية كلها، فأذن مرهفة قد أدركت فى لحظة غابرة أن النغمة الواحدة الصادرة عن آلة موسيقية عبارة عن عدة ترددات متباينة فى الشدة. فأخذت تفردها رأسيا ليتكون ما يسمية الموسيقيون «النظرية الهارمونية»، وأفقيا ليتكون عدد هائل، مما يسميه الموسيقيون «الميلودية التونالية». وأخيرا مع حلول النصف الثانى من القرن العشرين تملكت بعض الموسيقيين حالة جديدة حيث رجع الطيف إلى وظيفته الأصلية كلون فقط، فى حين تفككت التونالية وشقيقتها الهارمونية مع نهاية القرن التاسع عشر.
وعبقرية «باخ» تمثلت فى خلق تلك «الحالة» التى لم يعقه أبدا فيها تسطيره المُقيد زمنيا، أى صاغ موسيقى استاتيكية تبرز فيها مكانية الموسيقى. فأخذ بتوسيع النطاق الموسيقى الرأسى ليُبقى على حالة التوتر الاستاتيكى. فعندما تستمع مثلا للبرليود رقم 1 فى سلم دو الكبير من كتاب الكلافير المعدل، لن تسأم أبدا من ذلك التكرار الفضفاض لنغمات أربيجية تُعطيك إيحاء دفق موجات نهر. لن تسأم، بل ستدخل فى النطاق الكهرومغناطيسى التى تكونه المقطوعة الموسيقية على مدى دقيقتين وعشرة ثوانى، يشدك فى الخلفية تلك التتابعات الرأسية «التآلفات» التى تلون لك الجو الانفعالى ما بين توتر وارتخاء.


أما فى المثال التالى، فتصبح المكانية الموسيقية أكثر تعقيدا. ففى الحركة الثانية من «الكونشرتو الإيطالى»، يحاول باخ الإيحاء بوجود مباراة بين الأوركسترا وآلة الهاربيسكورد (الآلة الجد للبيانو) ولكن من خلال العزف فقط على الهاربيسكورد. وتبدأ الحركة الثانية البطيئة بدخول خلفية يحدث لها نماء تدريجى طوال الحركة تعطى لنا الثبات المكانى، فى مقابل دخول لحن اليد اليمنى المسترسل استرسالا يضيع معه الإحساس بالزمن، لنندمج كلية مع تحفة المعمار الموسيقى وتفاصيل نغماته البهية على نفوسنا على مدى الدقائق الست (زمن العمل).


قد يتراءى لنا تاريخ النظرية الموسيقية مُحتفيا بتحديد التكوينات المتوافقة والمتنافرة للمكان الموسيقى: أو ما نسمية بـ«التآلف»، لكن مع باخ نتعلم أن ما يهم حقيقة هو المنطق الموسيقى الجمالى وأن لكل قاعدة ابتدعها استثناء، تنحنى القواعد للجمال له. ربما كان هذا التوتر وفقد الطاقة عندما تتحول الممارسة الموسيقية إلى نظرية موسيقية السبب فى تحول الموسيقى من «حالة» فقط «فى التراث الشفاهى» مثلما فى حال موسيقانا المصرية التقليدية، إلى حالة ومعمار فى حالة «التراث الكتابى» على أيدى عظماء سبقوا عصرهم كأمثال المؤلف الموسيقى الألمانى الباروكى يوهان سباستيان باخ. وربما تكون مشكلتنا كثقافة مصرية مع الأشكال الموسيقية المختلفة، أننا أخذنا تجسيدا آخرا لطيفنا الموسيقى، فحار المكان الموسيقى مع زمن لا يعرفه. يوضح لنا شدياق فى بدايات الثُلث الثانى من القرن التاسع عشر فى «الواسطة فى أحوال مالطه»، تفسيرا شيقا للظاهرة الموسيقىة مُستخدما مهارة لغوية فائقة عندما يجمع نفس الحروف بتشكيلين مختلفين ليُعطيا معنيان متناقضان متكاملان فى استخدامه لكلمة «المنطق». أُرجع الأولى (المَنطِق) إلى المكان الموسيقى بينما الثانية (المنْطق) أُرجعها إلى الزمان الموسيقى أو المعمار.
فلنُنصت جيدا كيف سيطر شيخ المُلحنين زكريا أحمد على المكان الموسيقى فى أحد أدوراه التسعة لسيدة الغناء العربى: دور «هو ده يخلص من الله»، والذى يُرجح أنه لحنه لها فى نحو 1928 ونُشر فى 1932 على أسطوانات ادويون، على كلمات بديع خيرى.
والتونالية التى يستخدمها الشيخ زكريا هنا تونالية نادرة الاستخدام، قلما نجدها، قدمها فنان الشعب سيد درويش. هذه التونالية هى «مقام الزنجران». ومقام الزنجران شخصيته اللحنية والوانه الصوتية ثرية حيث يجمع ما بين عُمق «الحجاز» وصهللة «الراست». ولقد تملكت على الشيخ زكريا هنا حالة واحدة ظلت تتكرر مع النماء طبقا لقواعد الموسيقى العربية، تعتمد هذه الحالة على تبنى تقسيمات أو تنفس المقدمة الموسيقية لتظهر انعكاساتها على الفواصل واللزم الموسيقية ومداخل ونهايات الغناء لكوكب الشرق. كل هذا فى عرض هذا المقام هبوطا وكلقطة واحدة توضح تباين تضاريسه بين تألق نغمات الراست وخشوع نغمات الحجاز، باستخدام حركة سلمية زجزاجية للنغمات.
تعتمد البنية هنا على محتوى مقام الزنجران فى طبقته المتوسطة والجوابات ويُعطى لنا الشيخ زكريا الهيكل الأساسى للدور حيث يُلحن المقدمة الموسيقىة فى ثلاثة أجزاء لحنية، الاثنتان الأوليان قصيرتان، أما الثالثة فضعف طول الجزء القصير ويستعرض فيه المقام هبوطا.
ثم يبدأ لحن السيدة أم كلثوم حيث يأخذ بداية اللحن الأول كما فى المقدمة ثم ينتقل إلى لحنين آخرين مختلفين، لُينهى الشيخ زكريا جملتها بجزء لحنى مُستنبط من الجزء الثالث من المقدمة فى الطول والمحتوى.
ومن المبدع حقا أن يقصر الشيخ زكريا اللازمة الموسيقية مُحتفظا بطابع بداية لحن المقدمة ثم تكرار سياق اللحن الثالث السابق ظهوره فى المقدمة. ثم تبدأ كوكب لشرق فى غناء الشطرة الثانية والتى تبدأ فى الجوابات (المنطقة الحادة للمقام) لينتهى بجزء يتماهى مع الجزء الثالث للمقدمة مع زياة الطول. ويكرر الشيخ زكريا التصرف مرة أخرى بالنسبة لطول الفاصل الثانى والذى يبدأ بتنويع بسيط على الجزء الأول ويعقبه تكرار لسياق الجزء الثالث.
عزيزى القارئ، الآن تستطيع أن تكمل الإنصات إلى هذا العمل المميز، فأثق أنك قد أتقنت كيف يتنفس العمل وكيف تُعاد تقسيماته التى اتضحت من البداية وستلاحظ كيفية نمائه والذهاب إلى مقامات أخرى مثل الصبا فى الدقيقة 2:13 إلى 2:47. وستلاحظ كيف يُسطير أحيانا الجزء القصير الأول من المقدمة أو يتم إعادة ترتيب ظهور الأجزاء فيبدأ بالثالث.
مكانية الموسيقى إذن، ليست فقط هذه البصمة الفيزيقية التى تُسمعنا الطيف الصوتى، وإنما هى حاوٍ لدلالة متجمدة يفردها المعمار(الزمن): دلالة تُشير إلى درجة الإنفعال. لا عجب إذا أن يكون ما يُسمى التطريب، إفرادا لطيف أفقى لا رأسى، يوصلنا به إلى مرحلة الإندماج فى الحالة. بينما تتطلب موسيقى مثل الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية أن نستمع إلى الطيف متجسدا أمامنا بعدة شخصيات فى آن واحد لا صوت نغمة واحدة، تتفاعل معه صورنا الذهنية التى نكونها.
فالمكان الموسيقى هو تلك المنطقة الحساسة لثقافة من أنتجها، وهى التى تحتقظ للموسيقى بمحليتها. وخصوصيتها.

 

* مؤلفة موسيقية - أستاذة مساعدة بكلية التربية الموسيقية



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك