عزيز قوم.. - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 5:19 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عزيز قوم..

نشر فى : السبت 2 سبتمبر 2023 - 7:40 م | آخر تحديث : السبت 2 سبتمبر 2023 - 7:40 م
أتجول حزينة فى طرقات المدينة، بينما كان الغراب يتبعنى بإصرار. قادتنى قدماى نحو القرافة، بعد أن شاهدت صور جرافة المقابر وهى تضرب أحد المبانى القديمة بحركة حاقدة. أعرف أننا بشر وسنهلك كغيرنا عما قريب، لذا وقفت أتأمل مصير الأموات قبل الصامدين فى هذه الحياة التى أذاقتنا المرار. ألا يكفى أن ارتفعت تكاليفها وصرنا نشعر يوميا لأسباب مختلفة أننا عزيز قوم ذل؟ لماذا هذا الحرص على إعادة قتل الموتى؟ وقفت على الأطلال أراقب ما تبقى من لوحة رخامية صغيرة كتب عليها «هو الحى الباقى»، وأخرى كانت تحمل اسم المرحوم فلان، وأحاول الفهم أو الوصول لتشخيص أعراض ما يحدث فى ظل الإصرار على الهدم من ناحية، وصراخ من يعرفون قيمة ما يتم تدميره دافعين بأنها لا تقدر بمال من ناحية أخرى. البعض قام باقتراح مسارات بديلة وعملية منذ عام أو أكثر لتنفيذ المشروعات الجديدة، لكن لا فائدة، الجرافة ماضية فى عملها والغراب ينعب.
• • •
تابعت العديد من التعليقات والتحليلات لما نحن بصدده من «نزوات تدميرية» أو رغبة عارمة فى محو رموز بصرية تنتمى لعصور مضت أو تشويه أماكن تاريخية وتغيير معالمها ونقوشها وكتاباتها تحت مسمى «التطوير» و«الترميم»، وكان من أبرز ما قرأت حول تفسير الوضع الحالى هو أنه شكل من أشكال «الأيقنوكلازم» أى محو معالم وتواريخ لتحل محلها أخرى، ويكون ذلك غالبا لتكريس شرعية صور ورمزيات جديدة. ظهر هذا المصطلح المشتق من اللغة اليونانية القديمة (eikônoklastês) فى القرن الثامن الميلادى فى زمن الإمبراطورية البيزنطية، إذ كان الصراع على أشده وقتها بين طرفين، أحدهما يقدس الرموز والصور الخاصة برأس الدولة والدين والعبادات، والآخر ثائر عليها ويسعى لتدميرها وهو ما يطلق عليه حرفيا «أيقونوكلازت». وفى أعقاب الثورة الفرنسية، خاصة خلال القرن التاسع عشر، اتخذت هذه الظاهرة منحى أوسع وأصبح لها أبعاد سياسية مختلفة.
جميعنا يتذكر مشاهد الناس بعد الثورات والحروب وهى تندفع نحو تمثال حاكم أو شخص قريب من السلطة ليطرحوه أرضا رفضا لما كان يمثله، كما رأينا كيف تحولت قصور سابقة إلى مدارس ومصالح حكومية بعد تأميمها أو كيف تبدلت إراديا ملامح حى راق من عهد لعهد أو كيف مسح أحد الفراعين خرطوش ملك سابق لينسب هذا المعبد أو ذاك لنفسه وأحيانا يمحو آثار إله لم يعد مرغوبا فيه أو كيف يمكن لأحد الغزاة تغيير ما نقش على الجدران ليحسم نتائج معركة لصالحه. وكل ما يمضى بنا الزمن تتنوع قراءات المتخصصين لمحاولات الطمس والإحلال والتبديل التى شهدتها الدول عبر العصور.
• • •
يشرح البعض مثلا كيف للبعد البصرى داخل مدينة ما أن يعكس صراعات اجتماعية وسياسية لا تظهر بوضوح على السطح، وكيف يمكن لمبنى تاريخى أن يصبح رمزا لمواجهات عنيفة حول من ستكون له الغلبة ومن سيسجل نقطة الحسم. يربط هؤلاء بين هذه الصراعات وبين الرغبة فى إعادة تخطيط وتشكيل الفضاء العام بطريقة تحدد من له الحق فى المدينة ومن هو صاحب السيادة والآمر الناهى فيها. ويقرأ آخرون ما يحدث على أنه مظهر من مظاهر الفوضى، ويقارنون بين فترات الثورات والثورات المضادة ولحظات الانكسار أو المراحل التى تمثل قطيعة سياسية. وتتوالى التحليلات لتكشف أهمية المبانى القديمة ورمزيتها التذكارية، فهدم أثر أو إلباسه ثوبا جديدا فى وسعه أن يساهم فى إعادة كتابة التاريخ وفقا لأهواء النخب الحاكمة وأصحاب النفوذ والسلطان... تترك ما تريد، وتمحو ما تريد، وتعزز ما تريد، وتشوه ما تريد. فى وقت من الأوقات مثلا كان السلفيون غاضبين من أضرحة أولياء الله الصالحين وأهل البيت ويرغبون فى التخلص منها بما يتوافق مع قناعاتهم، وتخلصت قوات طالبان خلال سيطرتها على الحكم من تماثيل بوذا التى كانت من رموز أفغانستان ثم ندم بعض قادتهم على نسفها قبل أعوام، إلى ما غير ذلك من الأمور التى تفقد معها الإنسانية كنوزا تاريخية.
حروب الرموز البصرية تهدأ وتستعر تبعا للمرحلة السياسية، تشتد أحيانا فى فترات الثورات المجهضة أو التى لم تكتمل دورتها، فالهدم يتغير معناه ويتغير ضحاياه من وقت لوقت، وبالتالى مراقبة ما الذى يتم استهدافه ولأى غرض قد يكون مفيدا لتوضيح الصورة، وإن كان مؤلما، فأحيانا يصعب التعايش بين الاتجاهات والهويات المختلفة داخل المجتمع الواحد، تعجز المدن عن تحقيق التآلف، وهنا يحدث انفجار كبر أو صغر.
أتلمس طريقى محاولة الفهم أو بحثا عن تفسير منطقى أو شبه منطقى لما نعيشه. أمشى يدفعنى حنين جارف إلى الصمت. فى النهاية هى مجرد افتراضات واجتهادات. ينعق الغراب مجددا وأحس بالخوف وكأننى تحولت إلى خشب ضمن ناس من خشب.
التعليقات