بين كل الصور والڤيديوهات المؤلمة التي تحاصر ضمائرنا صباح مساء عما يحصل لغزّة وأهل غزّة أفتّش عن تلك الصور التي تتمسّك بالحياة وتتعلّق بالأمل، وغزّة تذهلنا دائمًا بقدرتها على لملمة الجراح والنبش ولو عن مصدر واحد للتفاؤل وسط الأنقاض. في أحد الڤيديوهات يظهر ثلاثة أطفال مثل القمر أعمارهم بين الثلاث والأربع سنوات وهم يحملون مشنّة فيها وليد عمره بضع شهور يسيرون بها ويضحكون، وعندما سألهم شخص لا نراه ماذا يلعبون جاء ردّهم: بنلعب لعبة الشهيد.
رد لا أغرب منه لا تعرف حين يفاجئك هل تبكي لأن هؤلاء الصغار تفتّحت عيونهم على الشهادة ورأوا مواكب الشهداء تتوالى أمامهم قبل أن يُفطموا فجرّبوا تقليد المشهد، أم تبتسم لأن هؤلاء الصغار حوّلوا ببساطة شديدة الموت إلى لعبة.. مجرد لعبة فإذا الموت يفقد رعبه الكبير ورهبته الشديدة. وفي إحدى الصور يظهر بعض الأطفال وهم يستمتعون بالمياه التي تصبّها أمهم فوق رءوسهم صبّا ليتخلصوا من آثار الغبار والتراب بينما الحطام من أمامهم ومن خلفهم، الأطفال هم الأطفال في كل مكان، واللعب بالمياه متعتهم فما بالك بأطفال غزّة حيث الحصول على نقطة المياه بشّق الأنفس؟. وفي صورة أخرى يجلس بضع الأفراد وسط حطام بناية هدّتها طائرات الاحتلال على رءوس أصحابها، فإذا بمَن تبقّى من السكان على قيد الحياة يجتمعون ويتجاذبون أطراف الحديث في عادية مذهلة وكأن شيئًا لم يكن. أفتح قوسين لأقول إنني رأيت مشهدًا قريبًا من ذلك في بيروت بعد الحرب الأهلية مباشرةً عندما جلسَت إحدى الأسر تحتسي شاي العصاري في شُرفة بلا سور.. وأحسستُ بدوار. أما الصورة التي أخصّص لها مقال هذا اليوم فهي لشاب كان ينقذ آلة عود من وسط الدمار ويناولها لشخص آخر عبر فتحةٍ في الجدار فيتلقفها منه بحرص كبير، هذا المشهد يستحّق الزووم عليه.
• • •
وجدتُ في مشهد إنقاذ العود جانبًا لا نراه كثيرًا في الإعلام عن الحياة داخل بيوت أهل غزّة، مع الأسف تجعلنا شراسة الاحتلال الإسرائيلي مشدودين شدّا لما يجري خارج البيوت أو بمعنى أدّق لما يجري لهذه البيوت. أما الداخل حيث الدفء والسمر والجلابية التقليدية وروائح المسخّن والمقلوبة حين يتيّسر الحال، فلا نكاد نراه. نحتاج إلى أنسنة أهل غزّة لنرى وجوههم التي تشبه وجوهنا ونتبيّن أنهم بين قصفٍ وقصف يلتقطون الأنفاس وربما يجدون وقتًا للعزف على العود. لا تحتاج آلة العود إلى كهرباء المحتّل التي يقطعها بخبث شديد عن القطاع بمستشفياته وملاجئه ومخيماته وكل ناسه، ما تحتاج إليه آلة العود: أوتار مشدودة وأنامل عازف ماهر، وكم من عجبٍ رأيناه من غزّة وأنامل أهل غزّة خلال الشهر الماضي. يحفر الناس بأناملهم ولا شئ سواها وسط تلال الركام مهتدين بأنينٍ واهن لطفلٍ صغير يأتي من أعماق الأعماق.. يصارعون الوقت والقصف والإرهاق ويحدوهم الأمل فيغوصون أكثر فأكثر وسط التراب، حتى إذا وصلوا إلى ضالتهم سرت فرحة جنونية بالمعنى الحرفي للكلمة بين الجميع، وانتقَلَت هذه الفرحة من فورها من لدنهم إلينا نحن الملتصقين بالشاشات حدّ التوأمة. إنقاذ حياة إنسان واحد جدير بكل هذا التكبير والتهليل.. نعم هو جدير. وفي أحيانٍ أخرى كانت تنغرس أنامل المسعفين وسط الأنقاض بحثًا عن مجموعة من الجراوي الصغيرة حديثة الولادة.. والمذهل أن مخالب الكلبة الأم كانت تتناوب الحفر معهم وتوجههم بإحساس الأم إلى مكان أولادها بالتحديد، وهكذا يمضي وقت تُزاحِم فيه الأم المسعفين فيخلون لها الموقع لتحفر، ثم يصيبها الإعياء فتتراجع خطوة إلى الخلف ويتقدّم المسعفون، وفي اللحظة التي تنتهي عملية الإنقاذ تتسابق الجراوي المتربة وهي مغمضة العينين لترتوي من حليب الأم. مشهد لا أروع منه ولا أكثر إنسانية، فوسط هذا الفقد الجماعي لعائلات بأكملها وهذا الاجتثاث لأسر وأحلام من جذورها يجد المسعفون وقتًا لإنقاذ خمسة جراوي صغيرة، فالروح هي الروح. ترّن في أذني عبارة وزير الدفاع الإسرائيلي إنهم "يحاربون حيوانات بشرية".
• • •
أُطلِق العنان لخيالي أحاول أن أتصوّر ماذا سوف تكون أول تقاسيم على هذا العود المحظوظ الذي نجا من قذائف الموت، وارد جدًا أن تكون المعزوفة أغنية عيد الميلاد الشهيرة، ولقد رأيتُ بالفعل صورة حقيقية لأسرة غزّاوية تحتفل بعيد ميلاد واحدٍ من أطفالها تحت أضواء الشموع. هل يغنّي أهل غزّة يالا حالًا بالًا حيّوا أبو الفصاد كما نفعل نحن هنا في مصر أم أن لهم غناهم وأهازيجهم الاحتفالية الخاصة؟ نثق أن ما بين رفح الفلسطينية ورفح المصرية يتجاوز بكثير أشجار النخيل وحقول الزيتون عمقًا ومساحةً. لن أقع فريسة الوهم بأن تقاسيم العود التالية ستكون بالضرورة لألحان الأشعار الوطنية التي أبدعها محمود درويش أو سميح القاسم أو نزار قباني، فأهل غزّة لا يحتاجون لمزيد من الاستنفار والحشد من أجل الصمود والثبات، لديهم بالفعل فائض مذهل من الثبات الإنساني اختبرناه جميعًا على مدار شهر كامل بل على مدار شهور سابقة كثيرة في كل الحروب المجنونة عليهم. أظنهم يحتاجون أكثر لتقاسيم تهدهد مخاوف الصغار الذين ينطّ الذعر من عيونهم الواسعة نطّا لأنهم خلدوا للنوم أول الليل نصف آمنين على أسرتّهم ثم صحوا ليجدوا أنفسهم تحت الأنقاض، وليس أرفق من ألحان الرحابنة على الأرواح. في مواجهة أزيز الطائرات الحربية وأصوات الانفجارات الهائلة ستشّق تقاسيم العود طريقها بصعوبة بالغة إلى آذان المستمعين، مؤكد أن هذا صحيح، لكن تلك التقاسيم مثلها مثل لعبة الشهيد وحمّام الصغار والاحتفال بعيد الميلاد من العلامات الحيوية على أنه ها هنا توجد إرادة حياة.
• • •
مع أنه لا وجه للمقارنة إلا أن مشهد إنقاذ العود من وسط الركام ذكّرني بمشهد بعض المصريين الذين احتضنوا جهاز التلڤزيون بين أذرعهم وهم يهربون إلى الشارع أثناء زلزال ١٩٩٢، وكأن القاعدة تقول إنه عندما تصبح الحياة مهدّدة فإن البشر يقبضون على مصادر بهجتهم.