الحمقى يتسيدون - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:11 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحمقى يتسيدون

نشر فى : الأربعاء 2 ديسمبر 2009 - 9:30 ص | آخر تحديث : الأربعاء 2 ديسمبر 2009 - 9:30 ص

 جاءت العولمة بآفات عديدة، لعل أشدها خطرا سيادة الحمقى. وهم يتخذون صورا عديدة تختلف باختلاف موقعهم، ولكنهم جميعا يتفقون فى أنهم يعيثون فسادا من خلال إساءة استخدام أدوات الثورة التكنولوجية التى وفرت الآليات التى تشكلت بموجبها ظواهر عديدة من ظواهر العولمة. ولعل الولايات المتحدة التى ارتبطت بها حركة المتغيرات التى تنسب إلى العولمة قد وفرت نماذج عديدة للحماقة المدمرة، نسوق منها اثنين: أحدهما فى مجال العلاقات السياسية الدولية، والآخر فى مجال النظام الاقتصادى الدولى. ولسنا بحاجة إلى تفصيل ما فرضه جناح المحافظين الجدد من استخدام أسلوب العدوان الهمجى تحت راية حماية مصالح الولايات المتحدة التى تدعى أنها تغطى الكرة الأرضية، ورعاية حقوق الإنسان فى كل مكان، وفرض الديمقراطية وفق منظورها ولو بقوة السلاح. واستغل بلير حماقة بوش فقاده إلى أن يحشد الدول الدائرة فى الفلك الأمريكى من أجل إشهار حروب كانت نتائجها وبالا على طرفيها. وتجرى هذه الأيام تحقيقات فى بريطانيا تبين مدى العبث بمصائر البشر على أيدى رؤساء حكومات أفرزتهم الديمقراطيات الغربية.

أما فى الجانب الاقتصادى فقد رفعت رايات الليبرالية الجديدة وسادت دعاوى الإصلاح الاقتصادى من أجل تمكين قطاعات المال والأعمال فى الولايات المتحدة ومن سار على دربها من أن تتحرك فى مختلف أرجاء العالم وفقا لما يحقق لها أعلى ربحية، بغض النظر عن متطلبات التوازن والتنمية للاقتصادات التى تمتد أنشطتها إليها. وتبع هذا تحركات هائلة للأموال ورءوس الأموال أصابت الاقتصادات الضعيفة بأزمات عنيفة. وحينما عصفت الحركة الهوجاء لرءوس الأموال بالاقتصادات الأكثر نموا فى جنوب شرق آسيا، اتهمت بأنها قصرت فى حماية أسواقها من الفساد. ولم يمض وقت طويل حتى انفجرت فقاعات مالية فى الولايات المتحدة فى سنة 2000، وأعقبتها فضيحة مؤسسة إنرون للطاقة فى 2001، واتضح أنها كانت تزور فى بياناتها رغم ادعاء الالتزام بالشفافية والمساءلة. وشجعت الأرباح الضخمة التى كان أغلبها وهميا على استئثار كبار العاملين فيها بأجور فلكية، وأشاعوا أنماطا فجة للاستهلاك البذخى، حاكوا فيه ذلك الذى يعيشه كبار نجوم هوليوود، فى قصور تُنظم رحلات فى نهر الهدسون لمشاهدتها عن بعد. ودخل هذه الحلقة مافيا غرست فى النفوس هوسا بالرياضة، سواء السلة فى أمريكا (ويظهر أوباما شغفه بها) أو فى كرة القدم، ليدر شراء لاعب أفريقى ثمنا لا يضاهيه عائد تصدير منتجات آلاف من بنى وطنه. وعندما تكررت مؤشرات تنذر بكارثة مالية فى فبراير 2007 نتيجة مشاكل فى سوق رهن العقارات الثانوية، تجاهلها المسئولون عن النظام النقدى الفيدرالى، إلى أن ساد الهبوط الحاد فى وول ستريت وتبعته البورصات الأوروبية ليلقب يوم 16/8/2007 باليوم الأسود. ومع ذلك فإن الرأسمالية الحمقاء لم تتوقف برهة لتزيل تشوهاتها، فتتابع المسلسل الذى أوصل العالم إلى خراب شامل خلال 2008، نعيش آثاره التى يتوقع امتدادها لعدة سنوات رغم دعاوى التبشير بقرب التعافى، بدلا من النظر فى إقامة نظام اقتصادى عالمى سليم، حتى لا يفقد كهنة الرأسمالية الحمقاء نصيبهم من كعكة وشيكة الزوال.

وأدت أنماط السلوك وممارسات الإفساد التى شاعت فيما يسمى بالدول المتقدمة، إلى ترسيخ أركان نظم فاسدة فى الدول النامية، امتصت دماء شعوبها وأحالتها قناطير مقنطرة تودع لدى مؤسسات مالية تسمى عالمية لتزيد من غنائمها. وفى الوقت الذى يصوغ المجتمع العالمى اتفاقية لمكافحة الفساد، تتصاعد سرعته ويزداد حجمه بصحبة القوات الغازية فى أفغانستان والعراق. وكان من البديهى أن يفضى ذلك إلى صراعات محلية تكاد تفنى دولا عديدة فى أفريقيا ومنها دول عربية. وفى هذا المناخ المسموم كان لا بد أن ينتشر الإرهاب، وأن يستتر فى عباءة الدين، ليعمل على مستويين محلى وعالمى، عانت منه مصر والجزائر والصومال كما عانت منه السودان وموريتانيا واليمن. واتخذ أبشع صوره فى شكل إرهاب الدولة الذى يمارسه الصهاينة فى فلسطين وجاراتها. وتتخذ الأنظمة الضعيفة منه ذريعة للاستبداد بدعوى مكافحته وحماية مصالح الدولة، وهى فى الحقيقة تؤمن النخب الحاكمة من شعوبها. وهكذا أصبح الحكم الفعلى للإرهاب، يرسخ حماقات القائمين به والمستفيدين من ادعاء مكافحته. ولو أن تلك النخب كانت متعقلة، لعنيت بإحداث تنمية حقيقية تعم مختلف فئات الشعب ومناطق الدولة.. حتى لا يفقد أبناؤها الانتماء لدرجة الوقوف مع الأعداء لو غزوا بلدهم عسكريا أو اقتصاديا أو ثقافيا.

على أن أخطر ما أفرزته الحماقة فى التعامل مع الأدوات التى وفرها مجتمع المعلومات والاتصالات هو خروج الإعلام عن وظيفته النهضوية ليصبح مع التعليم جزءا من ترسانة الربح بأى ثمن. وبعد أن عانى من تسلط السلطات الحاكمة عليه، إذا بها تطلق له السراح ليصبح أداتها فى مشاكسة أنظمة حاكمة فى دول ذات علاقات وثيقة بها، أو يخرج إلى الفضاء من أماكن بعيدة ليحول قضية الرأى إلى إثارة المشاعر ليتسع نطاق جماهيره، فتنهال عليه النشرات الإعلانية حتى ولو كانت تروج لمنتجات رديئة أو سلوكيات هابطة. وفى كل الأحوال يخدم هدفا مشتركا بين من يفسحون له المجال، هو انصراف الجماهير عن التناول الجاد لشئون حياتهم وتكوين رأى عام يحدد للنظم الحاكمة موقعها الصحيح من البنيان المجتمعى، ويعين فى حسن اختيار المسئولين عن تسيير دفة الأمور.

ويقودنا هذا إلى أمر حاولت جاهدا ألا أكون عضوا فى الجوقة الصاخبة التى لاتزال صيحاتها تصم الآذان وتؤذى الأبصار. إن ما نعيشه الآن هو نموذج صارخ لعمليات شحن ثم إعادة شحن ثم «زن» لا ينقطع. فى البداية كان شحن المشاعر لانتظار الحدث السعيد بالوصول إلى مونديال (عولمى بطبيعة الحال) اعتقدنا فى وقت سابق أننا أهل لاستضافته، فخرجنا منه صفر اليدين. وفى سوق كرة القدم التى تنظم لها فرق من كبار صغار المحللين يشنفون آذاننا بما يجب أن تسير عليه الأمور، ثم يجبروننا على سماع معلقين يبدو أن أجورهم تحسب بالكلمة، فيحدثون المشاهدين بموسوعاتهم الفياضة وأحيانا يبدو أنهم يعلقون على مباريات أخرى، ليتبعهم المحللون بعد أن كست وجوههم علامات الوقار وهم يظهرون لنا أخطاء المدربين واللاعبين والحكام، وخلال ذلك تتوالى إعلانات توفر أجورا سخية لهم وربحا مجزيا لملاك الواسطة الإعلامية. وهكذا انتهزت إمكانية الفوز الصعب على الجزائر فى شحن استمر عدة أسابيع وصورت الأمر على أنه حلم ينقلب إلى حقيقة، بدعوى أن الجمهور المتحمس لفريقه هو أداته للنصر المؤزر. وعندما وقعت الواقعة أعيد الشحن منتقلا هذه المرة من كرة تلهو بها الأقدام إلى كرامة ديست تحت الأقدام. وفجأة بدأ الحديث عن العروبة كما لو كانت هى المسئول عن إهانة الفراعنة، وحشر وصف الشقيقة الكبرى كما لو كان واجب الأشقاء الصغار منحها ما تحلم به، وطولب السفير الجزائرى بالعودة لبلده، بينما هو لا يملك التحرك إلا بتوجيه من دولته أو من الدولة المضيفة. إن العروبة أسمى من هذا البث، وعلى الذين يصفون الجزائر والمغرب العربى بانتمائه الفرنسى، أن يدركوا أنه بفضل إرادة أبنائه المخلصين بذل الدماء مدرارا ليطرد المستعمرين ويسترد وطنيته وعروبته. إن الجزائر عضو فى الدوائر الثلاث التى تهم مصر: العربية والإسلامية والأفريقية. ونحن أعضاء فى اتحاد أفريقى يسعى لأن يجعل من القارة ولايات أفريقية متحدة. بل إن ساركوزى الفرنسى دعا لأن نكون معا أعضاء فى اتحاد من أجل المتوسط. إذا كان العامة لا يدركون هذه الحقائق فإن المثقفين الذين ينصبون أنفسهم متحدثين باسمهم أن يبصروهم بها ويكونوا قادة فكر لهم ليبعدوهم عن حماقات لا تحميهم من طوابير الخبز ويصفّونهم فى طوابير تنتهى بالحصول على قطع من الأضاحى.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات