صناعة المحتوى عبر منصات التواصل الاجتماعى، ملأت الفضاء العام الذى يتابعه ملايين الناس بصورة يومية، وحتى خمس أو ست سنوات مضت، كان غالبية المحطات على «يوتيوب» تميل إلى مهاجمة الكثير من الأمور التى يُجمع عليها الناس. فتجد محطات لا شغل لها إلا تشويه صورة الدولة والتسفيه من أى إنجاز أيًا كان، وأخرى علمانية، لا شغل لها إلا التشكيك فى ثوابت المجتمع واتهامه بكل النقائص.. إلخ من المحطات. ثم ظهرت تباعا بعض المحطات التى تنتهج منهجًا معاكسًا، والتى لولاها، لفقد المجتمع إحدى أهم أسلحته فى مواجهة المغالاة والتطرف الفكرى.. ومن تلك البيئة يبدأ موضوع هذا المقال.
أول ما نتوقف عنده هو مسالة تغير الرأى. فعلى سبيل المثال، لو كنت صانع محتوى وانتقدت المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية الحالية قبل تدخل السيد الرئيس فى المسألة، فأنت تغامر بفقدان متابعينك، أو باجتذاب شريحة ناقمة لا يهمها موقفك من القضية، وإنما يهمها أنك تنتقد حدثًا يعتبرونه ينال من مصداقية الدولة. وهؤلاء الناس ليسوا ضد سياسة الدولة، وإنما ضد نظام الدولة نفسه. وهم لا يعتبرون أى نقد هو محاولة للإصلاح وإنما فرصة للهدم. لذلك صناعة المحتوى فى نظرهم هى استقطاب أكبر قدر من المعارضين إلى معسكرهم. وحتى أسبوع مضى كانت الناس تعرف أن بعض المشككين لا يعيشون بيننا داخل مصر، ولكن فجأة قررت إدارة منصة إكس (تويتر سابقًا) بكشف بلد أو منطقة المغرد، فانكشف المستور وعرفنا أن كثيرًا ممن يسود عيشة الناس لا يعيش بيننا وإنما هو مسلط علينا. لاحظ أن الذى قرر هنا هو المنصة ذاتها. وللعلم، أدى هذا الكشف إلى حالة تراشق حادة بين بعض المجتمعات الخليجية، وهذا موضوع آخر.
نعود لسياق تغير الرأى، ونتحدث عن صُناع المحتوى المؤثرين الذين يعيشون بيننا، ليس من مبدأ الشك فى انتمائهم وولائهم، لكن السؤال هو ماذا يحدث لصانع محتوى إذا تحول فكريًا نتيجة لتجربة مر بها، أو اكتشافه جوانب أخرى مختلفة ساهمت فى تغيير وعيه عن قضايا سياسية بعينها؟
لماذا يرفضهم المجتمع؟ هنا لا نتحدث عن واحد بعينه من المؤثرين، لا سيما من الذين واجهوا متاعب فى الفترة الأخيرة، وإنما نتحدث بصورة عامة حول فكرة تغير الرأى بناء على معطيات أو أسباب جديدة. لماذا يرفض المجتمع تحولهم من موقف إلى آخر؟ لاحظ أننا لم نقل من موقف إلى نقيضه، وإنما من موقف إلى آخر! المسألة هنا تخضع لحالة الاستقطاب فى المجتمع، التى تفرض على من يغير رأيه مواجهة صعوبات معقدة. ومن ضمن الصعوبات غياب أى دور لمؤسسة وطنية لتنظيم عملية البث عبر منصات التواصل الاجتماعى، ويكون منوطًا بها حماية الحريات، ومن ثم يتحول أى تجاوز فى مضمون الحلقات السياسية إلى مسألة أمنية تخضع لقوانين الحبس، وليس لمعايير المهنة.
• • •
بينما نغرق نحن فى هذه التفاعلات نغفل عن مسألة أخرى تدور وراء الأحداث. على سبيل المثال، منذ اندلاع حرب غزة فى 2023، استعادة حركة المقاطعة الكثير من البريق، وجذبت أعدادًا كبيرة، وجماهير غفيرة من مختلف المجتمعات العربية استهدفت الشركات الدولية التى تتعامل مع الاحتلال ويعتبرها الناس مؤيدة له فى ارتكاب جرائمه. وأسفرت حركة المقاطعة هذه عن أضرار جسيمة نالت العديد من تلك الشركات ذات المنتجات الاستهلاكية، مثل المياه الغازية، والقهوة، وبعض المأكولات السريعة، وسلاسل البقالة.. إلخ. وراء هذا الجزء الظاهر جزء أخرى يغفل عنه كثير من الناس. إن انتشار حركة المقاطعة مرتبطة بانتشار حملات التوعية بواسطة المؤثرين الذين يستعملون منصات التواصل الاجتماعى، لجذب عدد كبير من الجمهور لمواصلة الضغط على الشركات المؤيدة للاحتلال. من فضلك أعد قراءة الجملة السابقة. أرجو أن تكون اكتشفت بأن حركات المقاطعة تنال من الشركات الدولية ذات المنتجات الظاهرة للعيان، مثل المأكولات والمشروبات، لكن الحركة لا تستطيع مقاطعة منصات التواصل الاجتماعى المملوكة لشركات دولية أو غربية مؤيدة ومتعاونة مع الاحتلال، بل تستعمل منصاتها للترويج لحركة المقاطعة ذاتها.
إن الشركات الدولية الكبرى التى تملك منصات التواصل الاجتماعى، تملك فى الحقيقة قوة تأثير حقيقية. فليس المهم فقط من هو الذى نعتبره مؤثرا أو ما هو المحتوى الذى يقدمه، بل ما تسمح به تلك الشركات هو مربط الفرس. فمثلا، الكثير منا كتب تغريدات، أو منشورات على أحد المنصات، لكشف جرائم الاحتلال فى حق أهل غزة، والذين تعرضوا على مدى عامين لحملة إبادة همجية، لا تصدر إلا عن عقلية منحرفة فكريا. لكن نتفاجأ بقلة التفاعل على تلك المنشورات مقارنة بغيرها، وذلك لأن الشركات المالكة للمنصات، تعطيك حرية الكتابة، لكن لا تمنحك خاصية الانتشار. بل يخضع "الانتشار" لحسابات الشركة فى الترويج لما تعتبره مقبولًا، وتقوم بتحجيم المحتوى الذى ترفضه. لذلك نسأل، إذا كانت تلك الشركات تملك هذا التأثير، وتستطيع التحكم عبر اللوغاريتمات فى توجهات المتابعين، فمن هو المؤثر فعلًا؟ ليس المؤثر هو صانع المحتوى، وإنما المخرج الذى يدير العرض، ويسمح أو يمنع ما يتحرك على المسرح هو المؤثر الذى لا نراه، ولكن نشعر بأثره.
• • •
الدول التى تنبهت - مبكرًا - لقوة تلك الشركات، مثل الصين وروسيا، صنعت لنفسها منصات تواصل اجتماعى فى مجالات مختلفة، استحوذت على أكبر قدر من المتفاعلين داخليا، وانتشر بعضها للخارج وأصبحت ذات تأثير ملموس أو معاكس. على سبيل المثال، منصة «تيك توك»، الصينية المنشأ، هى التى فتحت أعين الغرب، لا سيما طلاب كبرى الجامعات الأمريكية، على حقيقة ما يحدث فى غزة. فبينما منع الاحتلال أى وكالة أنباء دولية، أو صحيفة غربية من دخول غزة وتغطية الحرب، كانت الفيديوهات المعروضة على منصة شتيك توك» هى التى تنقل للغرب حقيقة ما يحدث داخل غزة. ثم تحولت منصة «تيك توك» إلى موضوع للخلاف بين الولايات المتحدة والصين، بعدما تبينت الإدارات الأمريكية المتعاقبة لتوغل يد الصين حتى وصلت للتأثير على العمق الأمريكى ذاته. لاحظ أن استعمال تلك المنصة فى الصين لا ينقل محتوى الحروب، وإنما تشير الدراسات إلى نقله لمحتوى آخر مرتبطًا بالعلم، والمعرفة، والتوعية!
الشاهد أن صناعة المحتوى هى عنوان واسع يحوى طبقات مختلفة من التفاعلات. فبينما يأخذنا «الترند» للتركيز على حالة يومية، أو موضوع معين لفترة وجيزة، يغيب عن الحوار أمور أخرى لا تقل أهمية عن الصانع الحقيقى للمحتوى! ودون تنظيم البث عبر منصات التواصل الاجتماعى، سواء بالتوافق مع الشركات الدولية مالكة المنصات، أو عبر تقنين استخدامها فيما دون حبس الحريات، فإننا بصدد خلل فى الهيكل السياسى والإعلامى، لا نجد وسيلة للتعامل معه إلا أمنيًا. وقد يكون الحل فى صناعة البديل، من منصات محلية تملأ الفضاء الداخلى، وقد تتوسع لتصبح أداة أو وسيلة للقوة الناعمة.