شرفت وسعدت مؤخرا، باعتبارى توليت فى السابق ولما يقرب من عشر سنوات منصب مدير المكتب الإقليمى للدول العربية بالمنظمة العالمية للملكية الفكرية بجنيف، وهى إحدى المنظمات التابعة لمنظومة الأمم المتحدة، بتلبية دعوة كريمة من السيد الوزير محمد العرابى، وزير الخارجية المصرى الأسبق ورئيس المجلس المصرى للشئون الخارجية ورئيس منظمة تضامن الشعوب الأفرو آسيوية، والسيد السفير الدكتور عزت سعد مساعد وزير الخارجية الأسبق وسفير مصر الأسبق لدى روسيا والمدير التنفيذى للمجلس، للتحدث فى لقاء مهم نظمه واستضافه المجلس، الذى أتشرف بعضويته، حول سياسات الابتكار وتأثيرها على آفاق التنمية فى الوطن العربى، وهو لقاء شهد حضورا متميزا من جانب نخبة من القامات الرفيعة من أعضاء المجلس وأصدقائه، ومنهم أساتذة كبار من السيدات والسادة السفراء المتقاعدين وأصدقاء أجلاء وزملاء أعزاء.
وكانت تلك مبادرة رائعة ومحمودة من جانب المجلس، سواء فى موضوعها أو فى توقيتها، بسبب مواكبتها للأهمية المطردة لموضوع الابتكار بالنسبة لكافة دول العالم، وفى مقدمتها بلدان الجنوب العالمى التى تدخل ضمنها البلدان العربية من جهة، وبسبب إلقائها لضوء على الوعى والإدراك المتزايد لدى البلدان والحكومات العربية، خاصة على مدى العقدين الماضيين، بضرورة صياغة استراتيجيات وسياسات محددة وآليات لتنفيذها بغرض دعم وتشجيع الابتكار من خلال أطر مؤسسية وبشكل ممنهج ومنظم يربط نتائجه باحتياجات ومتطلبات اقتصادات ومجتمعات تلك البلدان من جهة، وبالمغيرات العالمية المتلاحقة والمتسارعة، خاصة فى مجالات البحث العلمى والتطوير التكنولوجى، من جهة أخرى.
ويجب أن نعود هنا إلى عام 2007، عندما بدأت المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو)، وتحت قيادة مديرها العام السابق الدكتور/ فرانسيس جاري، فى إصدار تقرير سنوى باسم «المؤشر العالمى للابتكار»، وذلك بهدف وضع ترتيب سنوى لبلدان العالم، التى تقدم البيانات المطلوبة منها من جانب الويبو للدخول ضمن هذا الترتيب، على أن يركز التقرير أساسا على قياس قدرات ونجاحات الدول فى مجال الابتكار فى سياقه العام، وذلك بناء على أكثر من 80 مؤشرا فرعيا يمثلون مجتمعين المؤشر العام للابتكار، وينقسمون إلى فئتين رئيسيتين هما: «مدخلات الابتكار» و«مخرجات الابتكار»، واعتمدت المنظمة، بجانب البيانات والمعلومات التى تقدمها الحكومات، على بيانات ومعلومات تتلقاها من منظمات دولية أخرى ذات صلة مثل الاتحاد الدولى للاتصالات ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) وغيرهما مما تصدر تقارير سنوية أيضا بعض ما فيها يرتبط بالابتكار ويؤثر فيه ويتأثر به. وإن كانت الويبو قد أصدرت ذلك التقرير لسنوات عديدة بالشراكة مع مؤسسات أخرى، فإنها، وبدءًا من عام 2021، وتحت قيادة مديرها العام الحالى السيد/ دارن تانج، أصبحت تصدر التقرير بمفردها.
ومما يلفت النظر أنه على مدار تلك السنوات التى تخطت العقد ونصف فإن عددا لا بأس به من البلدان العربية، وصل فى بعض الأحيان إلى نصفها، قد خرج من هذه التقارير السنوية بسبب الظروف الداخلية لبعض الدول أو عدم قدرة بعض الدول الأخرى على تقديم المعلومات والبيانات المطلوبة للويبو بحيث يمكن أن يشملها التقرير وتندرج فى إطاره. وبالمقابل، فإن عددا من الدول العربية نجحت فى السنوات القليلة الماضية فى أن تحقق تقدما، ملموسا أحيانا ومحدودا أحيانا أخرى، فى ترتيبها العالمى طبقاً للمؤشر العالمى للابتكار، وتسرى هذه الملاحظة بالذات على عدد من البلدان العربية الواقعة فى منطقة الخليج، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد نجحت دولة الإمارات فى التقدم لتحجز لنفسها مكانا على مدى أكثر من خمس سنوات ماضية ضمن الدول الأربعين الأكثر تقدما فى مجال الابتكار فى العالم، بل ووصلت فى سنة 2024 إلى المرتبة الثانية والثلاثين ضمن المؤشر العالمى للابتكار. كما حققت دول عربية أخرى تقدما ملفتا مثل السعودية ودولة قطر والمملكة المغربية و البحرين وتونس وسلطنة عمان و مصر.
وقد أدركت البلدان العربية جميعها بشكل متزايد أهمية الابتكار والسياسات الداعمة له، من خلال أهمية إيجاد البيئة المواتية له وحمايته من خلال تشريعات وقوانين تحمى حقوق الملكية الفكرية وتوفير وسائل جدية لإنفاذ وفرض هذه الحقوق، فى بناء اقتصاديات ومجتمعات متقدمة وقادرة على الحياة وعلى الصمود وعلى المنافسة وعلى التكيف فى ظل أوضاع اقتصادية دولية أكثر تحديا وصعوبة نتيجة للعديد من المتغيرات العالمية، سواء الاقتصادية أو ما يترتب على اعتبارات جيو استرايجية أو جيو سياسية دولية وإقليمية.
وبالتالى، بدأ عدد من البلدان العربية استخدام معطيات ونتائج المؤشر العالمى للابتكار فيما يخصها للعمل على تحسين الأداء الابتكارى لاقتصاداتها ومجتمعاتها وأيضا الاسترشاد بتلك المعطيات لصياغة استراتيجيات وسياسات وطنية للابتكار تكون مستندة إلى وقائع ملموسة تم التحقق منها بواسطة الويبو أو غيره من المنظمات الدولية التى يتم استخدام إحصاءاتها عند إعداد التقرير السنوى للمؤشر. وعلى الجانب المقابل، فإن عددا متزايدا من المنظمات متعددة الأطراف وبنوك التنمية الدولية والإقليمية أصبحت بشكل متعاظم تعتمد على ما يرد بشأن كل دولة فى التقرير السنوى للمؤشر العالمى للابتكار، ضمن تقارير ووثائق ومستندات أخرى، عند اتخاذ قرارها بشأن تمويل مشروعات أو برامج أو إعطاء الضوء الأخضر لاستثمارات عامة أو خاصة فى أى دولة تطلب منها القيام بهذا الإجراء تجاهها.
وعندما نتحدث عن البيئة الوطنية الداعمة للابتكار فإننا فى واقع الأمر نعنى مكونات كثيرة ومتنوعة، فبالتأكيد، هناك التشريعات والقوانين واللوائح والقرارات ذات الصبغة الإدارية التى يتعين إصدارها لتوفير السياق التشريعى المستقر والثابت والداعم للابتكار من خلال حزمة من الإجراءات والحوافز الداعمة والحامية للابتكار والمبتكرين، ويرتبط بذلك الحرص على تنفيذ وفرض ما تستتعيه تلك القوانين والقرارات من إنفاذ لها من خلال سلطات الإنفاذ الوطنية من شرطة وجمارك ونيابات عامة وجهات قضائية على تعدد مستوياتها ودرجاتها، ويرتبط بذلك توفير التدريب اللازم للقائمين على تلك الجهات كلها لتعميق معرفتهم الكاملة والمتعددة الأبعاد بالابتكار وبحماية حقوق الملكية الفكرية المترتبة على ناتج الابتكار والتى يجب أن يتمتع بها المبتكرون والمخترعون حتى يشعروا بالأمان وبالقدرة على التمتع بعوائد اختراعاتهم وابتكاراتهم، سواء من الناحية المادية أو من الناحية المعنوية والأدبية.
إلا أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فمن جانب آخر فإن تبنى سياسات داعمة للابتكار يتصل بشكل عضوى بصياغة خطط قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل لمراجعة منظومة التعليم والبحث العلمى بشكل عام وشامل، يبدأ حتى مع الأطفال فى مرحلة دور الحضانة السابقة على المرحلة الابتدائية ويتواصل ويتصاعد على مدى كل مراحل التعليم الإعدادى والثانوى ثم الجامعى وصولاً إلى الدراسات العليا فى الجامعات والبحث العلمى والتطوير التكنولوجى سواء جرى داخل حرم الجامعات أو داخل مؤسسات ومراكز بحثية تابعة للجامعات أو مستقلة أو تابعة لمؤسسات اقتصادية عامة أو خاصة أو مشتركة بين القطاعين الحكومى والخاص.
أما الجانب الثالث الذى يتعين إطلاق عنان المبادرات الداعمة للابتكار والمشجعة عليه من خلاله فهو ما يتصل بالمؤسسات التى تندرج ضمن ما جرى على تسميته بالمجتمع المدنى داخل كل دولة، ويشمل ذلك أنواعا كثيرة ومتعددة من المؤسسات بما فى ذلك الأندية الاجتماعية والرياضية والمراكز الشبابية والمنظمات النسائية وكذلك النقابات الفئوية والاتحادات الطلابية. ويندرج أيضاً فى هذا الإطار أهمية تشكيل منظمات غير حكومية لتشجيع الابتكار، سواء بشكل عام أو داخل فئات بعينها مثل الأطفال والنشء والشباب والنساء.
أما الجانب الرابع، وهو الأخير الذى سوف نتعرض له هنا مع الإقرار بوجود عناصر وعوامل وجوانب أخرى لا يتسع المجال لذكرها هنا ولها دور هام فى تعزيز البيئة الداعمة للابتكار، فهو ما يتصل بالدور الحيوى الذى يمكن أن تلعبه وسائل الإعلام، سواء التقليدية منها أو المستجدة والتى تنتشر بمعدلات متسارعة مثل وسائل التواصل الاجتماعى، فى التشجيع على الابتكار والتعريف بالعوائد المادية والمعنوية المجزية له على المبتكر وبالحماية التى توفرها القوانين للمبتكر ولمنتجو ابتكاره، والسعى بشكل خاص إلى جذب فئات لا تزال مساهمتها فى الابتكار أقل من نسبتها فى المجتمع مثل النساء والنشء والشباب من طلاب المدارس والجامعات.
وهكذا نرى أنه بالرغم من انتباه البلدان العربية خلال العقدين الماضيين، بشكل متزايد، لأهمية دور الابتكار فى تحقيق مكاسب وفوائد متعددة الأبعاد لاقتصاداتها ولمجتمعاتها ــ إلا أنه ما زال أمامها الكثير مما يتعين عمله لتعظيم ما يمكن أن تجنيه من وراء الابتكار ونتائجه، سواء على الأصعدة المادية البحتة أو على صعيد التنمية البشرية والمستدامة بمفهوميها الشاملين، وهو ما تملك البلدان العربية، على الأصعدة الفردية وشبه الإقليمية والإقليمية، كل المقومات اللازمة للقدرة على النجاح فى مسيرتها للوصول إلى هذه الغايات النبيلة والضرورية والحتمية والمثرية لشعوبها.