أخلاقيات العلم والإعلام - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 5:38 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أخلاقيات العلم والإعلام

نشر فى : الخميس 4 نوفمبر 2010 - 10:06 ص | آخر تحديث : الخميس 4 نوفمبر 2010 - 10:06 ص

 لن أنسى ما حييت طالبين فلسطينيين درست لهما فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية منذ عقود كانا بسبيلهما إلى اختيار موضوع لرسالة الماجستير. كان كلاهما مسكونا بدراسة الهوية الفلسطينية فى الأماكن التى لجأ إليها الفلسطينيون بعد النكبة. وكان سؤالهما المحورى: هل حافظ أولئك اللاجئون على هويتهم أم أنها ذابت فى خضم حياتهم الجديدة فى الشتات؟ اختار أحدهما أن يطبق دراسته على مخيم صابرا وشاتيلا فى لبنان، واختار الثانى أن يدرس حالة اللاجئين الفلسطينيين فى مصر.

أتم أولهما دراسته قبل مدة وجيزة من تعرض المخيم لمذبحة ما بعد الغزو الإسرائيلى للبنان فى 1982 وكان سعيدا بما ثبت له من مؤشرات بالغة الوضوح والصلابة على التمسك بالهوية، فيما أتانى الثانى يوما ليعلن فى إصرار ممزوج بالأسى أنه لن يتم دراسته.

سألته وأنا العارف بحماسه للموضوع عن السبب فقال فى حسم: لم أعثر مبدئيا على مؤشرات الهوية التى كنت أبحث عنها. ذاب أبناء وطنى فى الشرقية وغيرها فى المجتمع المصرى الضخم، وأصبحوا جزءا منه، وليس بمقدورى أن أعرض نتائج كهذه باعتبارها ثمرة لتحليل علمى، لأنها سوف تكون خير خدمة أسديها للكيان الصهيونى الذى يصر على أن الحل المثالى لمشكلة اللاجئين هو توطينهم حيث هم!

كان هذا هو أول احتكاك عملى لى بفكرة أخلاقيات العلم، وقد وجدتنى بعد تلك الواقعة منساقا إلى الاهتمام بالموضوع الذى شغل بعد ذلك حيزا متزايدا من اهتمام العلماء والمهتمين بالتطور العلمى، فالعالم فى مجال الطب لا يستطيع أن يجرى تجاربه على مرضاه دون تبصيرهم بالأبعاد الكاملة لهذه التجارب ومخاطرها، وثمة فارق هائل بين عالم يبحث فى «فيروس» معين لإيجاد العلاج الحاسم للإصابة به، وآخر يعمل على نشره بين جماعات معادية لنظام الحكم الذى يموله، وإنتاج «الوقود الحيوى» من مواد تصلح كغذاء للآدميين وهو عمل غير أخلاقى على الأقل من وجهة نظر المضارين منه.

وحتى الطبيب الذى يحرص على مصارحة مرضاه بحقيقة مرضهم ومصيرهم المحتوم جراء هذا المرض يُتهم أحيانا بعدم الأخلاقية على ضوء ما ثبت من أن الحالة المعنوية للمريض قد تكون عاملا مهما فى مقاومته المرض.

وفى مجال الإعلام ينطبق التحليل ذاته، وهو ما يسهل شرحه عندما نتذكر على الفور إعلام التهييج والإثارة الذى لا يحركه سوى هاجس الانتشار وأرقام التوزيع ومن ثم زيادة حصيلة الإعلانات، وعندما تكون القضايا رخيصة كالوسائل المستخدمة فى إثارتها قد يكون الضرر محددا، كما فى صراعات تكسير العظام بين أفراد لهم نفوذهم السياسى أو الاقتصادى، أو بين مصالح اقتصادية ذات شأن لا يحركها سوى حافز الربح.

أما إذا كانت القضية متعلقة بتماسك المجتمع وصلابته بل وربما حتى بقائه ذاته فإن الأمر جد مختلف، حيث يكون الثمن فادحا يخرب الحاضر ويهدد المستقبل. يضاف إلى هذا أن إعلام التهييج والإثارة يعطى لمن يريد الذريعة المطلوبة لتقييد حرية الإعلام كافة، وقد يتجه التقييد أصلا إلى الإعلام الجاد، وفى بلاد يكون للإعلام فيها هامش محدود أو محدد لحرية الإعلام أصلا فإن مردود إعلام التهييج يكون أكثر كارثية بكثير.

أقول قولى هذا بمناسبة الأزمة الأخيرة بين مسلمى مصر وأقباطها، والتى نجمت عن تصريحات غير موفقة لواحد من كبار ممثلى الكنيسة الأرثوذكسية فى مصر وردود أفعال هذه التصريحات من قبل ممثلين بارزين لمسلمى مصر، والتى جانب بعضها الصواب دون شك. وقد آثرت الانتظار حتى تهدأ الأمور ولو ظاهريا حتى يكون المناخ أكثر ملاءمة لإثارة الموضوع، وإن كانت هذه النوعية من الأزمات قد تواترت فى السنوات الأخيرة على نحو مقلق بقدر ما يشير إلى عجزنا عن حل الإشكالية المسببة لها.

فى هذه الأزمة الأخيرة تسابقت وسائل الإعلام وبالذات نوعية محددة منها فى التركيز على التصريحات والتصريحات المضادة وأحيانا تشويهها بدرجة أو بأخرى بما يهيج الطرفين معا، ولم يهتم أحد من المسئولين عن تلك الوسائل بالأثر المدمر للإثارة أو التهييج على وحدة الوطن وتماسكه، وللأسف فإن هذه ليست السابقة الأولى فى هذا الصدد، وإن كانت الأخطر فى تقديرى ربما لخطورة التصريحات التى فجرت الأزمة. وللأمانة فإن صحفا لها مكانتها قد نأت بنفسها عن الوقوع فى هذا المنزلق، غير أن صحف التهييج والإثارة لعبت دورا بالغ التخريب إذ لم يستحوذ على عقل المسئولين عنها سوى رقم التوزيع وحصيلة الإعلانات، وليذهب الوطن إلى الجحيم.

لم يقف الأمر عند حد المعالجة الإعلامية وحدها، وإنما امتد إلى أسماء وطنية لها مكانتها الفكرية والأدبية فى الجماعة المثقفة المصرية راح كل منها من زاويته المسلمة أو القبطية يحلل الأمور وكأننا فى حرب أهلية، فهذا يركز على تغول دور الكنيسة وضآلة عدد أقباط مصر، وذاك لا يتحدث إلا عن اضطهاد هؤلاء الأقباط فى جميع مناحى الحياة، وكأن شيئا لا يجمعنا فى الحالتين، وللأمانة فإن بعض هذه التحليلات قد تحلى بقدر لا بأس به من الموضوعية، لكن أحدا لا يضمن أن يكون قارئها متمتعا بالوعى المطلوب كى يتصرف فى النهاية طبقا للخلاصة الأخيرة لهذه التحليلات التى تحرص دائما على أن تسجل انحيازها للوحدة الوطنية، وإنما أغلب الظن أن ما يلصق بأذهان العامة هو الحجج التى تُساق على خطأ أو حتى خطيئة هذا الطرف أو ذاك، وهو ما يؤجج المواجهة.

لا يبدو أن أحدا من هؤلاء الذين يقاربون الموضوع من زاوية محددة قد شغل نفسه بما حدث لمجتمعات أخرى نهجت النهج نفسه فى المواجهة والاستقطاب فلم تحصد إلا الخراب، وقد ضيع بعض المجتمعات سنوات طويلة من عمره فى الاحتراب الداخلى ثم عاد إلى ما كان عليه، فيما خُربت مجتمعات أخرى تماما جراء هذا النهج، خاصة تلك المحاطة بخصوم تمنوا لها ذلك المصير.

يعتد البعض بمفهومى الأغلبية والأقلية، وبئس المفهومين فى مجتمع يمثل ساحة للعيش المشترك، ويقوم فيه الدين لدى طرفيه على التسامح وقبول الآخر، وليعلم الكافة أن الضعيف فى الداخل إن سدت أمامه السبل لديه بديل الاستقواء بالخارج، وأن القوى عليه أن يتذكر أن له إخوانا يشاركونه الدين نفسه، ويعيشون أقليات فى مجتمعات أخرى، وهو بالتأكيد لا يحب أن يستقوى عليهم أحد.

أتراها دعوة لإخفاء المرض والتنازل عن الحقوق وقبول المساس بالأديان ومقدساتها وفرض وصاية على الرأى العام؟ حاشا لله أن يكون هذا هو الغرض من السطور السابقة، وإنما هى بالتأكيد دعوة إلى أن نناقش قضايانا المصيرية فى هدوء وموضوعية وليس فى مناخ إثارة يكثر فيه الراغبون فى إشعال الحرائق. ولنحاول سويا أو على الأقل يحاول العقلاء منا على الطرفين أن نستعيد مناخا صحيا كان يمكننا أن نناقش فيه جميع مشكلاتنا وأكثرها حساسية دون أن نخشى حريقا. بعبارة أخرى علينا ألا نعالج الخلافات بيننا بمنطق «الأخذ بالثأر» وإنما بمنطق الآليات المؤسسية التى يتيحها نظام قضائى عادل.

هذه مصرنا مكانا للعيش المشترك منذ مئات السنين. يحضنا على ذلك ديننا سواء كنا مسلمين أو أقباطا، فمن شاء أن ينعق خارج السرب فليفعل، ولو لم تدركنا رحمة الله سبحانه وتعالى فيخرج من بين صفوفنا تيار قوى ومتماسك من مسلمى الأمة وأقباطها يدافع عن وحدة هذا الوطن الحبيب وتماسكه فسوف نكون جميعا من الخاسرين.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية