المدينة والكلاب - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 2:26 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المدينة والكلاب

نشر فى : السبت 5 مايو 2018 - 10:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 9 مايو 2018 - 1:27 م

أصوات النباح صارمة عدائية تنطلق لتملئ فراغ السماء ثم تدوى على الأرض. السيدة العجوز كانت لا تحب أن ينقلب نباح الكلاب إلى عواء وعويل، قرب الفجر، ظنا أنهم يرون ما لا نرى من ملائكة وشياطين أو يعطوننا إنذارا بقرب حدوث شيء ما: موت أو زلزال أو فيضان. وهم على أغلب الظن، يتشاجرون فيما بينهم، وتحاول كل مجموعة أن تفرض سيطرتها على المكان وتثبت وجودها، فيتعالى النباح ويتصاعد.

ينزعج بعضنا من الكائنات السائبة التى تشاركنا المساحة والحركة داخل المدينة أو فى المواضع الأكثر وحشة على أطرافها. لا نفهم لغوها وثرثرتها وقوانين حريتها الشخصية وصراعها من أجل البقاء. لا نتوقف عندها كثيرا، فهى جزء من المشهد منذ أن ولدنا، وكان معظم الأهل يحذرونا منها ويزرعون فى قلوبنا الخوف تجاهها على أنها غير مأمونة الجانب، وإن تمتعت بإلف الكلب وبإمكانها أن تعطينا دروسا فى اليقظة.

يقولون إن سلوكها تغير مع العيش فى المدينة، لم تعد الحيوانات البرية نفسها التى تتحرك فى مجموعات أو أرهاط مثل الذئاب بل صارت تشكل تحالفات وقتية سرعان ما تنفض وتنفرط، وإن تمسك بعضها بروح الجماعة أحيانا بهدف التحصين والدفاع عن النفس والقنص، فنلمحهم فى هيئة أسراب ليلية كعساكر الدورية، تهيم على وجهها فى الشوارع وفقا لتراتبية معقدة، لأن داخل المجموعة يبرز القائد الذى يأمر ويأكل أولا والتابع الذى يقف على مسافة ولا يتعدى حدوده، الرئيس والمنضم مؤخرا والأضعف الذى لا يجرأ على ممارسة الجنس فى حضرة القائد فيختبأ ليلبى نداء الطبيعة.

***

كائنات اعتادت المطاردة الأبدية والعيش على هامش المدينة ضمن سكان آخرين، ولكن بما أنهم جزء من المدينة فهم يتأثرون بظروفها السياسية والاقتصادية والثقافية كغيرهم، فلا تشفع لهم هامشيتهم. مع اقتراب بطولة كأس العالم فى كرة القدم التى ستعقد فى روسيا أرادت الحكومة أن تحسن صورة الإحدى عشر مدينة التى ستقام فيها المباريات، فتخلصت من كلابها الضالة قبل خمسة أشهر، بتكلفة 1,4 مليون يورو، قيل إنها أبادتهم بالسم أو اصطادتهم ونقلتهم إلى مناطق الغابات، بل ورصدت خمسمائة روبل للجثة الواحدة. وفى السنوات الأخيرة مع تصاعد الأزمة الاقتصادية فى اليونان، ارتفع عدد الكلاب الضالة، فوصل عددهم إلى مليون وستمائة ألف، لأن المواطنين لم يعودوا قادرين على التكفل بنفقات كلابهم المستأنسة فأطلقوها فى الشوارع. وهو ما حدث من قبل فى رومانيا تحت حكم نيكولاى تشاوتشيسكو، حين ازدادت وطأة الغلاء، وأجبر الناس على ترك بيوتهم الكبيرة والإقامة فى المدن داخل شقق وعمارات ضيقة بسبب السياسة العمرانية، هنا كانت الضحية أيضا كلاب المنزل الذين تم تسريحهم. وذاع صيت كلاب بوخارست حتى صارت ضمن الملامح السياحية للعاصمة، ووصل عددها إلى 65 ألفا.

***

عددها يزداد فى الدول النامية أو ذات معدلات النمو المنخفضة، فالناس عندما تضيق بهم سبل العيش لا تبقى فى قلوبهم ولا تفكيرهم ولا ثقافتهم مساحة للحيوانات الضالة، فهم بالكاد يطعمون صغارهم، ويشعرون أن عليهم إتباع قانون الكلاب المتشردة من أجل الحفاظ على حياتهم: لا تستسلم أبدا وحاول إطعام نفسك بنفسك، وحتى يتسنى ذلك فكل شيء مسموح من أجل البقاء: النواح والعويل والتكشير عن الأنياب وإظهارها، كلها سلوكيات الأزمة التى دائما ما تصيب تبعاتها الحلقات الأضعف فى المجتمع، بشكل أعنف وأشد.

تتسكع ليلا فى الشوارع، تنام على الأرض وقد استدار جسدها فاتصل الذيل بالرأس، تعوى وتنتحب للتعبير عن شكواها وتعاسة أحوالها. ينفض الناس من حولها حتى النهار، فتشعر أن الشوارع صارت ملكا لها، بدلا من أن تزاحمها الكائنات البشرية الأخرى فى الصباح، حيث يمضى كل منهم إلى رزقه وتسيير أموره والتكشير عن أنيابه، بل قد يذهب الحال إلى ألا يحتمل البنى آدم المخلوقات الأخرى إلى درجة أن ينتزع أحبال الكلاب الصوتية حتى لا يسمع نباحها، فلم تعد أعصابه تحتمل، كما فعل أحدهم فى الصين، قبل حوالى السنة.

التعليقات