بدون مقدمات وجدْتُ هذه القصة الطريفة تطفو على سطح ذاكرتى وتطوى بظهورها خمسين عاما من النسيان، فإذا بى أتذّكرها وأتمثّلها وأضحك على نفسى فيها كأنها وقعَت أمس أو حتى اليوم. كان أبى رحمة الله عليه كثيرا ما يأخذنى فى يده وهو يقوم ببعض مشاويره الصباحية، وعندما كانت ترتبط هذه المشاوير بمهام معيّنة فى وسط البلد كنتُ أرحّب بذلك كثيرًا، فأنا أحبّ وسط البلد ومازلتُ على حالى رغم الشعور بالغربة عن المحلات والأرصفة والسلوكيات. لكن يجب الاعتراف بأن مصاحبة والدى فى مشاويره بوسط البلد لم تكن خالصة تمامًا لوجه الله، فلقد كان وراء معظم هذه المشاوير ما وراءها. كام عود من أعواد التباروز أو الزنبق من محل أنكل عبد الفتاح ونيس فى شارع قصر النيل، أو قطعة من القماش الترجال تصلح لتفصيل چوب من محل أنكل أحمد عيد فى باب اللوق، أو بعض الأوراق البيضاء المسطّرة من مكتب أنكل صلاح السهلى المحامى. أتوقّف عند هذا الشخص الأخير لأنه ستكون لى معه جولة فى وقت لاحق، وكان رجلًا أشقر بتأثير جذوره التركية.. بدينًا بشكل واضح.. ويضع نظارة تبدو عيناه من ورائها فيهما طيبة غامرة.
• • •
فى إحدى زيارات أبى لمكتب صديقه المحامى صيف عام ١٩٧٤ وكنت وقتها قد انتهيت من امتحان الثانوية العامة وفى انتظار النتيجة- جلستُ أشغل نفسى بتصفّح بعض المجلات التى كانت وظيفتها تسلية الزبائن. كان أنكل صلاح محاميًا لعدد من كبار الفنانين المشهورين فى السبعينيات، وكان هؤلاء يخدمونه بالترويج لمكتبه من خلال لقطات قصيرة جدًا يظهر فيها فى أفلامهم بصفته محاميًا يلجأ إليه البطل أو البطلة. وعلى أى حال فهو لا يمثّل حالة استثنائية فى هذا الخصوص فهناك مثله أطباء وأصحاب فنادق أو محلات.. إلخ سبق أن رأيناهم على الشاشة على سبيل الدعاية. وبينما هذا هو الحال ترامى إلى سمعى أن أنكل صلاح معروض عليه نفس دوره المعتاد فى فيلم جديد، وأنه يبحث عن فتاة شابة تقوم بدور مديرة مكتبه تدق على بابه ثم تدخل لتعرض عليه أحد الملّفات فيأخذه منها، وتستدير هى عائدة من حيث أتت، وينتهى بذلك دورها فى العمل. أقول كنت أتابع هذا الحديث دون اهتمام عندما استوقفتنى العبارة التالية التى قالها المحامى لوالدى وكأنها اكتشاف: إيه رأيك يا عبد المنعم يا اخويا تخلّى نيڤين تلعب الدور ده؟ ارتبكت جدًا وأغلقت المجلة… ممممممم مين دى اللى تمثّل دور كومبارس صامت؟ أنا؟ بين الذهول والضحك تنقّلت حالتى النفسية لثوان، والحق أن الفضول أيضًا كاد أن يقتلنى لأعرف من أين أتى أنكل صلاح بفكرة إننى قادرة على التمثيل. أعرف نفسى جيدًا وأعرف كيف تفضحنى ملامحى فى مواقف الاستياء والألم والسخرية والسعادة وفى كل المواقف، باختصار أنا شخص لا يصلح أبدًاااااااااا لا لأداء دور مديرة المكتب ولا لأداء أى دور آخر.
• • •
العرض أيضًا فاجأ والدى فقد كان له تخطيط مختلف تمامًا لمستقبلى، كان يريدنى محامية، وكنت أريد نفسى صحفية، وفى النهاية اختارت لى الأقدار طريقًا مختلفًا تمامًا. لكن مع إلحاح صديق والدى عليه وإقناعه بأن الأمر لا يتعلّق بالاحتراف إطلاقًا لكن بخدمة بسيطة لن يستغرق أداؤها أكثر من ثلاث دقائق، وكل واحد يروح لحاله- بدأ أبى يقلّب الفكرة فى رأسه ويقول: لم لا؟ وبدأتُ بدورى أستلطف فكرة أن أجرّب نفسى فى التمثيل لمرة واحدة وأقول بدوري: لم لا؟ خرجنا أبى وأنا من مكتب المحامى على وعد بزيارته بعد يومين للتصوير، ولم ينس أنكل صلاح أن ينفحنى رزمة كاملة من الورق الأبيض المسطّر، غالبًا كانت هى أجرى مدفوعًا مقدمًا.
• • •
فى الموعد المحدّد تشيّكت على سنجة عشرة (ما معنى سنجة عشرة أصلًا؟) وارتديت قميصًا سماويًا فوق بنطلون شارلستون أسود وجمعتُ شعرى إلى الوراء على شكل كعكة، ثم توكّلتُ على الله. جلس والدى خارج مرمى الكادر وابتسم لى مشجّعًا وأنا أمسك بملّف لونه أصفر باهت وأستمع لتعليمات شخص لا أعرفه لكنه كان ودودًا. أخذ قلبى يدّق بعنف من مجرد التفكير فى أننى مقبلة على مواجهة الجمهور.. ما هذا؟ أترانى صدّقت أنى أمثّل حتى أتكّلم عن مواجهة الجمهور؟. طرقتُ باب المكتب كما طلبوا منّى ودخلتُ حاملةً الملّف، واقتَربت من أنكل صلاح ولم يبق إلا أن أسلّمه الملّف، فما أن مددتُ له يدى حتى انفجرتُ ضاحكة. تكهرب الجو رغم محاولة الجميع تفهّم سلوكى والتسامح مع طفولتى المتأخرّة. أعدنا المشهد وتكرّر نفس الأداء مرتين.. أقبض على الملّف وأتقدّم بثبات نحو صديق والدى ثم أستغرق فى الضحك وقد فقدتُ قدرتى على ضبط انفعالاتى، وأخيرًا انتقل الملّف من يدى ليده، وتنفّس الكل الصعداء..
• • •
ظهرَت نتيجة الثانوية العامة ونجحتُ نجاحًا باهرًا والحمد لله، وبينما أنا في غمرة الاحتفال بنجاحي تذكّرت دور الكومبارس الصامت الذي قمت به، وتخيّلت كيف سيكون الحال عندما يُكتَب أن أولى الثانوية العامة كانت تقوم بدور كومبارس ليس صامتًا فقط لكن فاشلًا أيضًا، واتاخدت قليلًا كما نقول في لهجتنا العامية. آه لو يحذفوا هذا المشهد الذي لا ضرورة له أصلًا؟ آه لو يعيدوه بجودة أفضل مع ابنة أنكل فلّان أو أنكل علّان؟ آه لو لا ينتبه صحفي شاطر إلى أنني ومديرة مكتب صديق والدي المحامي عبارة عن شخص واحد؟ الحمد لله مرّت الأيام ولم يحدث شئ، ولم أسأل أحدًا عن مصير الفيلم ولا حتى عن اسمه حتى لا ألفت نظر أحد للموضوع.. أو هكذا تخيّلت. وبالتدريج طوى الزمن صفحة هذه القصة العجيبة وباعدَت الظروف بين أبي وصديقه المحامي الفنّان.
• • •
يا أيتها الذاكرة العجيبة ماذا تخفين أيضًا من حكاوي الطفولة والشباب بين تلافيفك لترطّبي بها واقعنا الممّل؟ دعونا ننتظر لنرى.