يا مدرستى.. يا مدرستى - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 28 نوفمبر 2025 4:05 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

يا مدرستى.. يا مدرستى

نشر فى : الخميس 27 نوفمبر 2025 - 6:35 م | آخر تحديث : الخميس 27 نوفمبر 2025 - 6:35 م

يا مدرستى.. يا مدرستى
ما أحلاكِ يا مدرستى
أقضى فيكِ طول الوقتِ
مع إخوانى.. مع أصحابى
بين الدرسِ والألعابِ

مثلى مثل كل الأمهات مازلتُ أذكر أول يوم لأولادى فى المدرسة. اليد الصغيرة التى تقبض على يدى لا تريد أن تفلتها أبدًا، نظرات الاستعطاف فى عيونهم ثم دموع الخوف من المكان الجديد والناس الأغراب والبعد عن الsafe zone، باى باى من وراء فتحات باب المدرسة تجمدنى فى مكانى ثم تحبسنى فى سيارتى لبعض الوقت لعلنى أسمع "يا مااااما" تأتى من بعيد فأهرول. نظل نحلم باللحظة التى نضع فيها أطفالنا على أول الطريق بعد أن تنتهى المشاورات حول المدرسة الأفضل ونظام التعليم الأنسب. نستخدم كل صلاتنا الشخصية للضغط من أجل تجاوز قوائم الانتظار الطويلة بلا نهاية. نطالب الممتحنين بأن يتسامحوا مع خجل أطفالنا أثناء المقابلة الشخصية ويغفروا لهم عنادهم المشروع. نحسب بالورقة والقلم ما يتبقى لنا من رواتبنا بعد أن نقتطع منها المصروفات المدرسية التى باتت تقصم ظهر الغنى والفقير، فكلنا نريد لأبنائنا أن يكونوا أفضل منّا.. وهذه المقولة صحيحة جدًا ومجرّبة تمامًا. وأن يكون قلب الأم خفيفًا أو لا يكون، فهذه المشاعر الإنسانية عابرة لقلوب كل الأمهات ولو بدرجات متفاوتة، وهذا معناه أن اللحظة التى يغيب فيها أطفالنا عن أنظارنا داخل مدارسهم لأول مرة.. تكون لحظة صعبة عليهم بالتأكيد لكنها صعبة علينا أيضًا.
• • •
عندما شرعتُ فى الكتابة عن موضوع أطفالنا فى المدارس بعد فاجعة المدرسة الدولية إياها، حاولتُ أن أكتب من زاوية اجتماعية بحتة وأطرح أسئلة للنقاش من نوع: ماذا حدث لمدارسنا وفى مدارسنا بل ماذا حدث لمجتمعنا ككل؟ هل صحيح فعلًا أن ما حدث قديم وكثير- لكن شجاعة الاعتراف عند الأطفال والأهالى هى التى رفعَت عنه الغطاء؟ هل يجب أن ننتبه إلى أن اهتمامنا المبالغ فيه جدًا بمظاهر التديّن جاء على حساب اهتمامنا المحدود جدًا بجوهر الدين؟ هل يُجدى التفسير الطبقى فى فهم ظاهرة تحرش عمّال المدرسة بالتلاميذ من خلال مقارنتها بظاهرة تحرش خدم القصور بأبناء المماليك كما ذكر أحدهم.. وهنا يثور السؤال الفرعى التالي: هل العمّال هم وحدهم المتحرشون؟ هل آن الأوان كى يبحث معارضو عمل المرأة عن شمّاعة أخرى يعلقون عليها الاضطرابات النفسية للأطفال- باعتبار أن أبناء النساء غير العاملات مثلهم مثل أبناء النساء العاملات يتعلمون ويذهبون إلى المدارس وفى بعض المدارس تحدث انتهاكات؟ هل هناك فائض عنف فى المجتمع لأسباب كثيرة يتوجّه للمخلوقات الأضعف ويستهدف الصيد الأسهل؟.. ترجّنى رجًّا عبارة الصيد الأسهل. هل يعّد انفصال التربية عن التعليم هو الأصل فى المرض أم هو عَرَض من أعراضه؟ هل نحن كمصريين نعانى وحدنا من هذه الظاهرة أم أننا جزء من ظاهرة أشمل عنوانها العنف المدرسي؟ هل سنجد أنفسنا مضطرين فى المدى القصير للجوء للتعليم عن بُعد ونخسر تفاعل أطفالنا مع أقرانهم بمنطق أخفّ الضررين؟. أقول حاولتُ أن أدخل للموضوع من هذا المدخل العلمى، ثم... سقطتُ سقوطًا حرًا فى فخ أمومتى، فقررتُ أن أكتب كأم عن أمهات الضحايا، وأترك كل الأسئلة الكبيرة والخطيرة فى عُهدة المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية والمجلس القومى للأمومة والطفولة والأطباء النفسيين.
• • •
أن نفترض توفّر حد أدنى من الأمان- فهذا هو الشئ الوحيد الذى يجعلنا نُودِع فلذات أكبادنا فى هذا المبنى ونسلم براءتهم إلى هذه الإدارة ونعهد بحمايتهم إلى الجميع. منظومة متكاملة نضع ثقتنا فيها ونوكّلها توكيلًا غير مكتوب لترعى أطفالنا فى غيابنا. هل يمكن أن يدّعى أحد اليوم أنه آمن على أطفاله؟ ما حدث أشبه بالزالزال.
• • •
عبر فضائية مشهورة أتى صوت أم واحدة من ضحايا المدرسة الدولية إياها يحكى لنا عن التجربة المؤلمة التى تعرضَت لها ابنتها مع آخرين. أطفال فى أولى وثانية حضانة يُهددون ويرّوعون وتُنتهك براءتهم ويُلَقَنون الكذب والمراوغة على عكس طبيعتهم. يُعرض عليهم الجناة الواحد تلو الآخر وتُطلب شهادتهم داخل أقسام الشرطة فيستعيدون تفاصيل الألم والخوف والجريمة. فى أثناء الحكاية يتقطّع صوت الأم ويتهدّج وينطق بالقهر الشديد.. لكنه ينطق أيضًا بالإحساس بالمسؤولية وبالتصميم على إنقاذ كل أطفال المدرسة إياها من الجحيم. تفكر الأم، وتبحث، وتفتش، وتسأل، وتراقب وتخطط.. وهذا كله فى السر حتى لا يُفلت الجناة وتمر الجريمة بدون عقاب. تنسق مع أمهات أخريات، وتتردد يوميًا على المدرسة، وتضع عينيها فى عيون الجناة، وتؤجّل دموعها إلى ما بعد دقات جرس المرواح. وأخيرًا جدًا تحمل الأم طفلتها والأدلة والشهود وتتقدم ببلاغ إلى النيابة العامة. أتوقَف هنا أمام الأيام الصعبة جدًا الفاصلة بين وعى الأم بما جرى لابنتها وبين إلقاء القبض على المجرمين.. إحساسها صباح كل يوم وهى ترسل ابنتها للمدرسة إياها كى لا تثير الانتباه.. تصنع لها ضفيرتها كالمعتاد، وتضع لها العروسة وكراسة التلوين مع غيار نظيف والساندويتش والحلوى فى حقيبتها كالمعتاد، وتقبّلها وتسلمها بيدها للمشرفة فى أتوبيس المدرسة أيضًا كالمعتاد. هل خطر ببالنا كأمهات شعور الأم الشجاعة فى لحظة التسليم والتسلم هذه؟ ثم هل خطر ببالنا كأمهات كيف كانت تمر عليها ساعات اليوم الواحد وساعات الأيام كلها قبل أن يُفتح ملّف القضية؟ ليتنا نوسّع الزووم قليلًا حتى نرى كل الزوايا والأبعاد، فثمة جوانب تحتاج ضوءًا إنسانيًا.
• • •
بالتدريج تتآكل المساحة الفاصلة بين الخيال والواقع، فالواقع يثبت لنا أنه قادر على إدهاشنا بأكثر كثيرًا مما تفعل حلقات مسلسل أو فصول رواية. وقديمًا قالوا إن الدهشة مفتاح المعرفة.. لكن أما وقد اندهشنا بما يكفى وأحطنا علمًا بما حدث فماذا نحن فاعلون ومع مَن ومَن ومَن؟ ما أكثر القطط التى نحتاج أن نعلّق الأجراس فى أعناقها.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات