لا يكاد يمرّ يوم إلا ونشاهد أو نسمع أو نقرأ عن حادث طريق مروّع يروح ضحيته أرواح بريئة أو يتسبب فى إصابات بالغة وخطيرة، حتى أصبح مشهد الحوادث جزءًا مألوفًا من حياتنا اليومية، تتناقله وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعى. وفضلًا عمّا تخلفه حوادث الطرق من فواجع نفسية فى نفوس المتعرضين لها وأسرهم، لم يعد أحد آمنًا من تلك الحوادث التى صارت أحد أبرز مظاهر الخطر فى المجتمع المصرى.
هذه المشاهدات تدعمها الأرقام الرسمية الحكومية، إذ أشارت النشرة السنوية لنتائج حوادث السيارات والقطارات عام 2024 الصادرة عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء فى أبريل 2025 إلى أن عدد حوادث الطرق فى مصر بلغ 76362، بزيادة قدرها 7.5% عن عام 2023، فى حين بلغ عدد المتوفين 5260 متوفى بنسبة انخفاض قدرها 6.2% عن عام 2023.
يأتى هذا فى الوقت الذى أولت فيه الحكومة اهتمامًا ملحوظًا خلال السنوات الماضية بملف الطرق، واستثمرت جزءًا كبيرًا من ميزانيتها فى إنشاء طرق جديدة وتوسعة الطرق القائمة، وتحديد السرعات القصوى، وتشديد العقوبات والمخالفات على متجاوزى السرعة، من خلال تثبيت عدد كبير من الرادارات الحديثة فى غالبية الطرق السريعة، وهو ما انعكس إيجابًا على انسياب حركة المرور وسهولة التنقل داخل المدن وعواصم المحافظات. غير أنه لم يسهم فى الحد من حوادث الطرق أو حجم الإصابات الناجمة عنها. ولا ينبغى تحميل طرف واحد مسئولية ارتفاع عدد حوادث الطرق أو إلصاق التهمة بسائقى سيارات النقل كما جرت العادة بعد كل حادث ضخم. فعلى الرغم من عدم وجود دراسات جادة وشاملة حول أسباب الظاهرة فى مصر، فإن مراجعة الأدبيات والتقارير الدولية حول أسباب حوادث الطرق تظهر أنها ترجع إلى مجموعة من العوامل المتشابكة.
فمنها ما يتعلق بالطرق ذاتها من حيث التصميم والجودة ومدى توافر اللوحات الإرشادية والإضاءة الجيدة وتصميم المداخل والمخارج على الطرق السريعة. ومنها ما يرتبط بسلوك قائدى المركبات مثل رعونة القيادة، وعدم الالتزام بالسرعات المقررة، ومخالفة قوانين المرور بشكل عام كعدم ترك مسافة الأمان، وعدم الالتزام بالحارات المرورية، والانشغال عن الطريق باستخدام الهاتف المحمول أثناء القيادة. كما أن ضعف العقوبات المفروضة على المخالفين وعدم كفايتها يشكّل عاملًا إضافيًا لغياب الردع. ومن الممكن كذلك أن تكون التوسعات التى شهدتها عدة طرق ومحاور، إلى جانب تحسن جودة الطرق ذاتها، قد أدت بشكل غير مقصود إلى تشجيع بعض قائدى المركبات على القيادة بسرعات جنونية.
وفى هذا الإطار، نتطلع إلى أن يكون هذا الملفّ المهم على جدول أولويات الحكومة المصرية والمجالس التشريعية، ومن بينها مجلس الشيوخ الذى بدأ دورته البرلمانية مؤخرًا، وهو الجهة المعنية بإجراء الدراسات والبحوث حول أسباب المشكلات واقتراح الحلول المناسبة لها.
ومن هذا المنطلق، ينبغى أن تكون الحلول شاملة ومتكاملة، بعيدة عن الحلول الجزئية والإجراءات الشكلية، وذلك من خلال حزمة من الإجراءات والسياسات التى تستهدف معالجة الأسباب الرئيسية للمشكلة، ومن بينها ما يلى:
• التشديد على التزام قائدى المركبات بتعليمات المرور خاصة الالتزام بالحارة المرورية، الذى أراه أحد الأسباب الرئيسية لتكرار حوادث الطرق. ويمكن للرادارات والكاميرات الحديثة المثبتة على الطرق والقادرة على التقاط الصور بدقة عالية الكشف عن تلك المخالفات بفعالية وتغريم مرتكبيها كما يحدث مع تجاوز السرعات المقررة وعدم ارتداء حزام الأمان.
• تشديد العقوبات على مرتكبى المخالفات والحوادث المرورية خاصة المتكررة منها، بحيث لا تقتصر على الغرامات المالية التى قد لا تشكل رادعًا كافيًا لبعض المواطنين. وينبغى أن يتضمن القانون سحب رخصة القيادة لفترة محددة أو الحرمان من القيادة لفترة ممتدة فى حال تكرار المخالفة، بما فى ذلك استخدام الهاتف المحمول أثناء القيادة.
• الاهتمام بإنارة الطرق ووضع ضوابط للإعلانات المثبتة على الطرق السريعة، بما فى ذلك حجم الإعلانات ومواقعها ومستوى الإضاءة المسموح به، بحيث لا تتعارض مع رؤية السائقين أو تحجب العلامات المرورية والإشارات التحذيرية.
• تشديد إجراءات استخراج رخص القيادة، بحيث تشمل اختبارات حقيقية لقياس كفاءة المتقدمين للاختبار، ليس فقط فى مهارات القيادة، بل فى مدى التزامهم بإرشادات المرور وفهمهم للعلامات المرورية المختلفة، مثل عدم تجاوز السيارة التى أمامك إلا فى الأماكن المخصصة، وترك مسافة الأمان، والوقوف عند مداخل الطرق الرئيسية، وعدم الدوران للخلف إلا من الأماكن المخصصة لذلك وغيرها.
• اهتمام الأجهزة التنفيذية بتثبيت العلامات المرورية المختلفة بوضوح فى مختلف الطرق والشوارع، مع صيانتها بانتظام لضمان استمرار وضوحها للسائقين.
• تنفيذ حملة توعية شاملة ومبتكرة بمشاركة خبراء فى التسويق وعلم النفس والاقتصاد السلوكى، تستهدف تغيير سلوك السائقين وبناء ثقافة مجتمعية جديدة للقيادة الآمنة.
إن التعامل مع هذه المشكلة ينبغى أن يتم على أسس علمية ومنهجية دقيقة، من خلال دراسة واقعية وشاملة لأسبابها وجوانبها المختلفة، والبحث عن حلول فعالة تستند إلى آراء الخبراء والمتخصصين فى مجالات النقل والسلامة والطرق، مع الاستفادة من تجارب الدول الأخرى فى هذا المجال، وتقييم أثر السياسات والإجراءات المتبعة بانتظام للتأكد من فعاليتها وقدرتها على الحد من هذه الظاهرة الخطيرة.