اتعلّم عوم - نيفين مسعد - بوابة الشروق
السبت 18 يناير 2025 4:16 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

اتعلّم عوم

نشر فى : الخميس 5 ديسمبر 2024 - 9:35 م | آخر تحديث : الخميس 5 ديسمبر 2024 - 9:35 م

منذ كنت طفلة وأنا أسمع من أمى أنها تخاف من البحر وأنها لا تحب البحر وأنها لو خُيّرت بين النار والبحر لاختارت النار. كان هذا الكلام يصدم طفولتى فى الصميم لأننى مثل كل الأطفال كنت أجد فى الموج الأزرق خلاصًا من الأوامر والمذاكرة والروتين والقيود وحرّ الصيف، وأبحث بين تموجات المياه عن برااااح لا يتوفر على الأرض. ولازلت أذكر كيف كنت مع أخوّى نرتدى المايوهات تحت المرايل فى آخر أيام الدراسة حتى إذا مرّ علينا والدانا نكون جاهزين تمامًا لملاقاة البحر. وهكذا فما أن كانت تتوقّف السيارة الأجرة أمام شقة المصيف، حتى كنّا ننطلق نحن الصغار إلى الشاطئ ونتركهم ينظفون الشقة ولا نعود إلا مع آخر ضوء للنهار. كانت تذهب سدىً نصيحة أمُّنا بأن نترفّق بأنفسنا فى أول يوم بحر حتى نعتاد على ملوحة المياه. وبالفعل كان تقشير جلودنا يبدو مضحكًا جدًا خصوصًا فى منطقة الأنف، لكن المتعة التى كان يمنحها لنا البحر لا حدود لها. تشهد على هذه المتعة شواطئ سيدى بشر وستانلى والمعمورة وكل شواطئ الإسكندرية التى كانت جميلة، ورمالها التى كانت بلون الذهب، وكبائنها التى كانت نظيفة مثل الفل. ملحوظة على الهامش: قام الآيباد بتعديل كلمة كبائنها مرتين إلى كبائرها.. يبدو أن الآيباد هو الآخر لا يحب البحر.
• • •
لم يرتبط خوف أمى من البحر بواقعة معينة، لكن ربنا خلقها كده. ونحن لا نحتاج بالضرورة لأسباب تفسر لنا مخاوفنا، فبعضنا يخاف من الحسد، أو من الفقر، أو من الظلام، أو من كلام الناس، أو من الشيخوخة، أو من الفشل، أو من الموت، أو من الكلاب والقطط، أو من العفريت. تقول إحدى الأغنيات الشعبية: اللى يخاف من العفريت يطلع له ينزل له يقعد له.. هل لهذه الدرجة يمكن للخوف أن يطاردنا فى كل خطواتنا؟ نعم يحدث ذلك، وإذا غيّرنا حرف الجر (من) إلى (على) سنجد المزيد من المشاعر والكائنات والأشياء التى نموت خوفًا عليها. عن نفسى كنت أخاف من الوحدة ثم صرت أخاف أكثر من المرض وألم المرض، أما خوفى على مَن أحبهم فلم يتغيّر.. لم يتغيّر أبدًا.
• • •
جلسَت الشابة العربية سامية (وهذا اسم وهمى) تحكى عن قصة الشاب لؤى (وهذا اسم وهمى آخر) ذى التسعة عشر عامًا الذى مات غرقًا فى النهر قبل فترة قصيرة. كان لؤى مهووسًا تمامًا كمعظم شباب العالم بكرة القدم أو بالمستديرة الساحرة كما يسمونها. يستحيل أن يلعب ناديه المحبوب إلا ويكون هو فى طليعة المشجعين حتى وإن لم يكن فى جيبه ثمن التذكرة. لا شىء يثنيه أبدًا.. يرتدى فانلة ناديه من صباحية ربنا، ويُخرج العَلَم من الخزانة، ويتخّذ طريقه إلى الاستاد. يحبس النَفَس ويتجمّد كصَنَم ويكتم الصوت إلا أن تصدر منه صيحة فرح لهدف أحرزه ناديه المحبوب أو صرخة غضب لركلة جزاءٍ ضاعت عليه. يضع بؤسه وبطالته وحبه المؤجّل لابنة خالته على طرف قَدَم هدّاف الفريق، حتى إذا سدّد الهدف وهزّ الشباك أحسّ أنه أنجز شيئًا. وفى هذا اليوم المشئوم شدّ لؤى الرحال كالمعتاد إلى الاستاد الذى تقام فيه إحدى المباريات الفاصلة فى نهائيات الدورى العام. المدينة التى يوجد بها الاستاد تشتهر بزراعة الياسمين وتفوح من شوارعها وشرفاتها وحوانيتها وطبعًا من حدائقها رائحة الياسمين. يقول نزار قبانى فى إحدى روائعه: شكرًا لطوق الياسمين.
• • •
مرّ الشوط الأول بالتعادل صفر صفر، ومع الشوط الثانى دخل هدف وآخر وثالث فى مرمى الفريق الذى يشجعه لؤى فبدأ التشنّج وارتفع منسوب القلق. ساد الهرج والمرج وعلا السباب وتطايرَت الشماريخ فى الهواء، وفى لمح البصر نزل المشجعون إلى الملعب. وجد لؤى نفسه محاطًا بشرطة مكافحة الشغب من كل صوب فركض وركض خلفه شرطى تعهّد بأن يطارده حتى آخر نَفَس. كان لؤى يركض بكل قوته، بساقيه الرفيعتين الفتيتين، بخوفه من الحبس والبرد والعزلة والإهانة، وبغضبه من هزيمة ناديه. ركض حتى وجد نفسه أمام النهر فالتفت إلى الشرطى من ورائه وصرخ بأعلى صوت: ما اعرفش اعوم. لكن كأنه لم يصرخ أبدًا ولم يرتعد أبدًا بل كأن أحدًا لم يره أصلًا.. دفعه الشرطى بدمٍ باردٍ وقلبٍ جامدٍ وأعصابٍ من حديد إلى مجرى النهر قائلًا: اتعلم عوم، فاندفع لؤى إلى القاع بمنتهى السرعة. ابتلع فى جوفه الأوحال والطحالب والأسماك الصغيرة، وامتلأت رئتاه بالماء، واختلَطَت فى هذيان اللحظات الأخيرة كل الأشياء بكل الأشياء ثم.. راح. وبعد أيام طفت على سطح النهر جثة مجهولة يرتدى صاحبها فانلة إحدى الفرق الرياضية الشهيرة. قيل إن الشاب كان يحادث الشرطى فلم ينتبه إلى أنه سيسقط فى الماء، وقيل إن الشرطى نزع سترته وحاول إنقاذ لؤى لكن لكل أجلٍ كتاب، وقيل إنه لم يكن هناك شرطى من الأصل وإن الحكاية ببساطة أن شابًا لا يعرف العوم نزل إلى النهر فغرق. أما الناس.. عامة الناس فالتقطوا هذه القصة المأساوية وأطلقوا عبر وسائل التواصل الاجتماعى حملة بعنوان "اتعلم عوم" وكأنهم يردون الاعتبار لكل الذين يتم إلقاؤهم فى الماء ولم يسبق لهم العوم.
• • •
رجّتنى هذه القصة رجّاً ببساطتها وقسوتها فى آنٍ واحدٍ فتذكّرت كل شىء. تذكّرت خوف أمى من البحر ومَثَلها الشهير «امشى سنة ولا تعدّى قنا-أى قناة»، وتذكّرت عينيها المعلقتين بنا فى كل مرة ننزل البحر وزمجرتها حين ندخل فى الغريق أو الغميق كما يقولون فزعًا من احتمال أن يجرفنا التيار، فهل كانت أمى محقّة فى خوفها؟ من المؤكد أن كل الأمهات لا يخطئن .. هكذا نقول عنهن بعد أن نصير نحن أنفسنا أمهات.. لكن هل كان مصدر مشكلة لؤى هو النهر أم كان المصدر هو الشرطى الذى دفعه إلى النهر؟ الإجابة معروفة هذا إذا كان فى المسألة يوجد شرطى لأن البعض يشكّك فى وجوده. المهم أن الشاب لؤى لم يعد فى المدينة، صحيح مازال عطر الياسمين يفوح فى الأجواء ويعطّر السماء ويصل إلى شاطئ النهر الذى ابتلع تسعة عشر عامًا من التعاسة وحب الكرة، صحيح ما زال هذا العطر موجودًا لكن نزار قبانى يقول: ولمحتُ طوق الياسمين فى الأرض مكتوم الأنين.. كالجثة البيضاء تدفعه جموع الراقصين.. كالجثة البيضاء تدفعه جموع الراقصين.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات