موزاييك السعادة - نيفين مسعد - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 12:38 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

موزاييك السعادة

نشر فى : الخميس 8 فبراير 2024 - 6:25 م | آخر تحديث : الخميس 8 فبراير 2024 - 6:25 م

المِلكية الفكرية لعنوان هذا المقال هى ملكية مشتركة بين الكاتب الصحفى الكبير توماس جورجسيان وبينيــ عندما كنا نبحث عن عنوان يناسب الأمسية البديعة التى اجتمَعَت فيها مجموعة من ١٧ شخصا، فيها ٤ من الأرمن ويونانى ولبنانى و١١ مصريا، فاقترح توماس عنوان «موزاييك البهجة» ففكّرت قليلا ثم قلت له خليه أحسن «موزاييك السعادة». فى الحقيقة كانت العناوين فى تنوّعها تشبه بالضبط التنوّع الذى ميّز جلستنا، إذ يصدق عليها عنوان «قَعدة الذاكرة» الذى اقترحه أرمن مظلوميان لأننا عندما بدأنا نتعارف أخذتنا الذاكرة إلى أحلى أحلى سنين العُمر، ويصدق أيضا عليها عنوان «سفينة نوح» لأن توماس وَصَف جلستنا بأنها تشبه السفينة التى إما نجعلها كمثل سفينة نوح أو نجعلها كمثل سفينة تايتانك أو نورماندى تو.. تو.. تو. لكن سفينتنا أبحرَت بسلام والحمد لله لمدة ثلاث ساعات مرّت كأنها حلم.

• • •

كان صاحب دعوتنا على شرف توماس جورجسيانــ دكتور محمد أبو الغار، وهو إنسان وطبيب وسياسى فيه من الصدق والاستقامة والنزاهة ما يجعلُك تعود بظهرك إلى الوراء وتشعر بالراحة التامة. أما اختيار توليفة الحضور «السكلانس» على حد تعبير توفيق الحكيم فى إحدى رسائله لزوجة ابنهــ فهو توماس ذلك المخلوق المعجون بالصحافة والتفاؤل وخفة الدم وحب مصر. كانت التوليفة عجيبة غريبة تبدأ بتوماس وتنتهى عنده، فيها مَن تعود علاقته بتوماس إلى أكثر من نصف قرن كمثل الطبيب إيهاب الخرّاط الذى زامله خلال المرحلة الثانوية بكلية السلام فى سراى القبّة، ومَن تعود علاقته بتوماس إلى أقل من ذلك قليلا كمثل الكاتبة عبلة الروينى التى التقاها فى بلاط صاحبة الجلالة وعاصَر قصة حبها/زواجها القصيرة البديعة مع الشاعر الكبير أمل دنقل. فى هذه التوليفة مَن تعود علاقته بتوماس إلى السبعينيات كمثل الكاتب الصحفى سمير شحاته الذى التقى بتوماس فى مهرجان القاهرة السينمائى الأول، ومَن تعود علاقته به لبضع سنوات كمثل فاطمة البودى صاحبة دار نشر العين التى اكتشَفتُ أنها كانت فى الأصل طبيبة قبل أن يخطفها عالَم الكتب، وكمثل رجل الأعمال أليكس شلبى رفيق غُربة واشنطون وجلسات مقهى زوربا وأكلة السوڤلاكى اليونانية الشهية وحديث الكتب وذكريات الوطن. فى داخل التوليفة مَن تعرّف على توماس عن طريق الفيسبوك والتقاه مرة أو مرتين فى القاهرة كمثل الفنان التشكيلى محمد عبلة الذى يؤمن بمداواة الداء بالفن ومؤسس أول متحف للكاريكاتير فى الشرق الأوسط، ومثلى أنّا شخصيا. أما ذلك الفنان اللبنانى المبدع وليد عونى مؤسس الرقص المسرحى فى مصر والشرق الأوسط فكان لقاؤه بتوماس فى تلك الأمسية هو اللقاء الأول. يقول توماس عن نفسه إنه يجيد الدخول فى العلاقات الثنائية، لكن العجيب أن كل علاقة من هذه العلاقات الثنائية كانت تفتح له مغارة على بابا لنسج المزيد والمزيد من العلاقات الإنسانية. وهكذا قادته علاقته بالناقد سمير فريد للتعرّف على ينّى ميلاكرينوديس ذلك اليونانى الذى إن رأيته وتكلّمت معه لن يخطر ببالك أبدااااااا أنه يونانى رغم أنه يونانى قح أعدّ رسالة ماچستير عن اليونانيين فى السينما المصرية بقدر ما هو مصرى قحّ. وقادته علاقته القديمة بالصحفية العفريتة نورا كولويان التى أسماها أبوها على اسم أغنية فريد الأطرشــ إلى التعرّف على الكاتب الصحفى عزت إبراهيم فى واشنطون عندما ذهب إليها مديرا لمكتب الأهرام. ثم قادته علاقته بعزّت إبراهيم للتعرّف على الدبلوماسى سامح ألفونس وقت أن كان نائبا لرئيس مكتب جامعة الدول العربية فى واشنطون. وقادته علاقته بعبلة الروينى للتعرّف على وليد عونى، وهذا الثنائى الأخير من ألّذ ما يكون فعندما التقطا قبل الانصراف صورة سيلفى وهما تحت قبعة واحدة بدا لى أن الصورة تقهقه بصوتٍ عالٍ. ولا أجد تعبيرا يصف هذه التوليفة النادرة أفضل من جملة الناقد محمود عبدالشكور حين قال «هى دى مصر اللى شايلة البلد»، وعبدالشكور نفسه هو جزء من هذه المصر المتنوّعة الواسعة فهو ابن نجع حمادى الذى جمع فى جوفه بين حبين: حب الشيخ سيد النقشبندى وحب شارل أزناڤور.

• • •

فى توليفة سفينة نوح هذه لفت نظرى أن الجماعة الأرمنية المصرية أو على الأقل ما كان منها من بين ركاب السفينة، جماعة شديدة الارتباط فيما بينها وشديدة الارتباط بمصر. وهنا أعترف بأننى احتجت إلى درجة عالية جدا من التركيز حتى أمسك بالخيوط التى تربط أرمن مصر ببعضهم البعض، فوالدة نورا كانت مدرّسة توماس فى مدرسة كالسيديان الأرمنّية (تم هدمها). وعائلة الطبيب أرمن مظلوميان رئيس الهيئة الوطنية الأرمنّية فى مصر وحفيد ناصيبيان صاحب أشهر استوديو للتصوير فى مصرــ ارتبطَت بعلاقة صداقة مع عائلة رافى بارطميان وهى عائلة فنيّة بامتياز فالأب مغنّى أوبرا والأم فنانّة تشكيلية. وللجالية الأرمنيّة المصرية فضاءات اجتماعية وثقافية ونوادٍ للتلاقى معا، بالطبع أصابها التغيّر كما أصاب التغيّر كل شىءفى حياتنا، لكن لازالت هناك فرصة لممارسة الرياضة (كرة السلّة بالذات)، والرسم، والغناء، والكتابة فى جريدة «هوسابير» أو باعث الأمل. يجمع بينهم حب الفن فلا بيت أرمنّى يخلو من البيانو، وإجادة لعب الشطرنج المقرّر إجباريا فى أى مدرسة أرمنيّة. ومع أن الأصل أنهم يتزاوجون فيما بينهم إلا أنهم منفتحون على الزواج من خارج الجماعة: فيروز وبدر الدين جمجوم، ونيللى وحسام الدين مصطفى، ولبلبة وحسن يوسف. ثم أن الأرمن شديدو الارتباط بمصر، وهو ارتباط تصنعه أشياء صغيرة لكنها تترك أثرا. يحكى رافى بارطميان عن عمّ أحمد الجناينى الذى خبأه أثناء حرب ٦٧ خوفا عليه، وعندما كتب بعد سنين هذه القصة على فيسبوك وقرأَتها فتاة يهودية مصرية كان يحبها أيام زمان ولم تكن «تعبّره«ــ علّقت عليه بأن هذا الجناينى فعل معها الشىءنفسه. ويحكى عن عمّ حسن البقَال الذى أشفق عليه من اضطراب الأحوال الاقتصادية فى مصر بعد ثورة يناير فمدّ يده فى جيبه وأخرج له مبلغا محترما من المال لأنه «ابن الغالي». إننا إزاء جيل ثالث وربما رابع من المهاجرين الأرمن، يتكلمون المصرية بدون أى لكنة حتى أن مدرّس رافى بارطميان قال عنه «الواد ده أول ما شفته قلت خواجة وأول ما اتكلم قلت ده من بولاق الدكرور»، بل ويتقنون اللغة العربية التى تتحاشاها الأجيال الجديدة حتى أن نورا كولويان فازت فى مسابقة إلقاء الشعر التى كانت تنظّمها إدارة غرب القاهرة للمدارس الثانوية. وكانت القصيدة التى أجادت إلقاءها بالفصحى هى قصيدة «فى سرنديب» للشاعر الكبير محمود سامى البارودي! يا للهول فعلا.

• • •

أعود إلى صانع هذه التوليفة العجيبة توماس جورجسيان، ذلك الصيدلى الذى اشتغل فى صيدلية «مترو» بشارع عماد الدين، وبدأَ أول احتكاكه بعالَم الفن من داخل الصيدلية التى كان يترَدّد عليها العظيم شادى عبدالسلام وكومبارس قهوة بعرة فى نفس الشارع، ذلك الجندى فى الفرقة ١٨ مشاة ميكانيكا بالجيش الثانى فى القنطرة غرب، الصحفى اللهلوب الماهر خريج مدرسة روزاليوسف، عُمدة المصريين فى واشنطون وعموم أمريكا وضواحيها، المتفائل بدون مبرر كما قال… عندما أخذ كلمة الختام فى نهاية القعدة الحلوة فاجأنا بدموعه الغزيرة الصادقة وهو يقول «لما بنتى تيجى مصر حايشاوروا عليها ويقولوا دى بنت توماس»، فلم يكن أكثر مسّا بشِغاف القلب من بكائك يا سيد توماس.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات