إذا لم تكن هلوسة فماذا تكون؟ - جميل مطر وبسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 4:33 م القاهرة القاهرة 24°

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إذا لم تكن هلوسة فماذا تكون؟

نشر فى : الثلاثاء 9 مايو 2023 - 8:30 م | آخر تحديث : الثلاثاء 9 مايو 2023 - 8:30 م

قضينا أنا وأختى الصغيرة جانبا من وقت النشأة فى بيت شقيقتى الأكبر ندرس ونلعب مع ابنتيها، إحداهما أصغر منى بعامين والثانية فى عمر شقيقتى الصغيرة التى تصغرنى بأربعة أعوام. كانت تعيش معنا فى بيت شقيقتى فتاة من الريف فى مثل عمرنا، تدرس معنا وتلعب وتأتى أمها فى الشهر مرة تحصل مبلغا مقابل ما تحمله من منتجات قريتها. تقضى ليلة أو ليلتين ولا يفوتها خلال زيارتها أن تضعنا فى صورة آخر ابتكاراتها من حواديت وأغان مخصصة للأطفال أو هكذا اعتقدت نساء القرية. أذكر كما بالأمس أغنية توظفها الأمهات لينام على كلماتها ووقع نغماتها الأطفال. تقول الأغنية «أنا العفريت لخضر أمشى بدال البط واتمختر. مرات أبويا دبحتنى وحطيتنى فى الحلة وسلقتنى وأبويا كل حتة منى واختى عرفت ماكلتش». الغريب أن الريفية التانية التى كانت تزور بيت أمى كانت تردد على أسماعنا الحكاية أو الأغنية نفسها ضمن أغان أخرى شبيهة.
ورد ذكر جلساتنا فى نصف دائرة حول أم فاطمة بمناسبة اتصال هاتفى بشقيقتى أتأكد منها، وهى تتأكد بدورها من إحدى الشقيقتين، عن تفاصيل حكاية من نوع آخر كان يرددها أمامنا ونحن صغار أبى وأحيانا أمى. يحكيان، أبى وأمى، عما تعرضا له عندما سكنا بيتا فى حلوان لأيام قليلة. كان معهما ابنتهما وابنهما وكلاهما فى سن الطفولة. تزعم أمى فى حكايتها أنها كانت تسمع صوت أطفال يغنون ويلهون فى الغرفة المجاورة لغرفة نوم طفليها فتهرع إليهما وتفتح الباب فلا تجد أثرا لأطفال غير طفليها وشقيقتها التى لم تكن تتجاوز الثانية عشرة. توقظ شقيقتها وتسألها إن سمعت ضجة فتنكر الشقيقة. تكررت الضجة فى اليوم التالى. وهو اليوم الذى أحست فيه عندما دخلت الحمام لتستحم أن شخصا موجود معها فيه. لم تخبر والدى بالأمر ولا بالضجة الصادرة عن غرفة نوم الأطفال إلا فى اليوم الثالث لوجودهما فى البيت. ما إن سمع أبى بما حدث إلا وطلب منها جمع أمتعتهم استعدادا للرحيل فورا.
من ناحيته، أكد لنا الوالد أن البيت كان مسكونا. قال إنه سمع من أمى ما حدث مع الأطفال ومعها فى الحمام ففاجأها بالقول بأن ما حدث معه يفوق فى غرابته ما حدث معها. كانا نائمين فى فراشهما عندما دقت الساعة معلنة منتصف الليل، انتبه إلى أن غريبا خفيا موجود معهما فى الغرفة. لم ينهض من الفراش. كتم الصوت وحاول النوم فاستعصى عليه. إذا به يسمع همسا خشنا فى أذنيه يطلب منه إخلاء مكانه فى الفراش. استمر ساكنا فى خوف شديد. فتح عينيه ليرى أمامه رأسا سوداء البشرة يكسوها شوك والعينان تطلقان ما يشبه النار. يقول الوالد إنه صرخ رعبا ونهض من الفراش وظل مستيقظا حتى أفاق الطفلان وخالتهما وأمى وتوجهوا جميعا إلى محطة القطار. هناك فى المحطة أسر الوالد إلى ناظر المحطة بجانب مما لاقوه من أذى فى البيت فجاء رد الناظر سريعا، لا شك أنكم سكنتم «بيت مدام أصفر». نعرفه مسكونا. من هذا الذى دلكم عليه لتسكنوه؟
عدت من آسيا وحكيت لأبى ما جرى معى فى أهم ميادين نيودلهى وأكثرها ازدحاما بالسكان ولم يكن قد مضى على إقامتى بالعاصمة الهندية أطول من أسبوع. لن أطيل حيث إننى جئت على هذه الحكاية فى كتابات ليست قليلة. قابلنى رجل أشعث الشعر رث الملابس ونادانى من وسط الناس باسم أمى. لم يكن ينظر فى وجهى وهو يقول أنت جئت إلى الهند قبل أيام لتقضى فيها سنوات، ولكنك ستغادرها قريبا وتعود إليها فى ظروف كارثية. ومشى لا يلوى على شىء كأنه لم يفعل ولم يقل شيئا غريبا.
خطر على بالى اليوم وأنا أستعيد ماضى حياتى المديدة ومنها حكايات عن الأشباح فى حى السكاكينى وحكايات كبار الأهل فى حارة الوراق بالجمالية ومنها حكاية حمار جدى الذى راح يعلو به وهو راكب فوقه، أقول خطر على بالى تساؤل عن الأنشطة المتعلقة بأسطورة أو حقيقة وجود عالم آخر نعيش على حدوده ولا نراه، وهل لدى العلم وأصحابه تفسير ما كان يحدث ولماذا لم يعد يحدث؟ أخيرا توجهت بالسؤال لزميلة فى الشروق وفى صفحة الرأى تحديدا، حققت من العلم ما يزيد ويفيض وتخصصت فى كلية الطب فى علوم العقل والمخ.. عرضت عليها السطور القليلة التى كتبتها وطلبت منها الرأى.. فيما يلى رأى الدكتورة بسمة عبدالعزيز.
• • •
لم يكن فى خاطرى وأن أتلقى المقالة من الزميل والصديق العزيز جميل مطر؛ أننى سأقع على مثل هذا الموضوع الذى يعد موروثًا ثقافيًا عامًا، تتشاركه أمم وشعوب ومجتمعات كثيرة.
قصص العفاريت وحكايات الأرواح، الأحداث العجيبة والوقائع التى تسجلها الذاكرة وتتناقلها الأجيال؛ مهما بلغت بها الثقافة ومهما أبحرت فى مجال العلم والبحث والدراسة.
الحقُّ أننى سمعت حكايات كثيرة مثلى مثل غالب القراء، خفت منها فى سنى الطفولة، ولبثت بعض المرات فى ظلام حجرتى أترقب المجهول الآتى، وربما أرتعش لأقل صوت يصدر عن حجرة مجاورة أو عن فرد من العائلة لم يزل مستيقظًا فى عتمة الليل ومهابته. مع الوقت تحولت من طور الخوف إلى التفكير، ومع التقدم فى العمر، تحولت إلى الهزل كلما صادفت من يؤمن بعالم العفاريت والجان وما بينهما من طيف واسع من المسميات.
كبرت ودرست وتراجعت قليلًا عن التنكيت والسخرية، ونظرت إلى الأمر من زاوية ربما تكون أكثر موضوعية. ثمة تفسيرات عديدة ومتنوعة لأمور مذهلة تحدث فيراها البعض ويسمعها بعض آخر وينفعل بها كثيرون، منها ما يقع للبشر فى المنطقة الزمنية التى تحيط بعالم النوم الغامض ويمكن الحديث عنه فى إطار العلوم والدراسات؛ إذ قد يصاب النائم مرات بحال أشبه بالشلل التام، ولا تكون الحواس حينها فى حال متوازنة متناغمة، الأمر الذى يدفع للإحساس بوجود شيء غامض لا يمكن إدراكه بوضوح. تتدخل المخيلة حينئذ وتفعل أفاعيلها الجنونية، ويتحرك اللاوعى فيجتر مخاوفه وهواجسه، ثم تتضافر العوامل كلها لتصنع فى نهاية الأمر مشهدًا مفزعًا، يبدو كما لو كان حقيقة.
يسرد الجدود ما يخيف الطفل كى ينام، رغم أن الرعب قد يُذهِب النومَ من أجفان الكبار، فالصغير يفضل فى العادة أن يهرب وأن يغيب فلا يبصر ما يخشى، ولا عجب أن تأتى هذه الوسيلة بالمراد، فيسقط الأطفال فى النوم وفى رءوسهم ما يدور وينمو ويتوالد، وربما يعود فى لحظات الصحو ليداعبهم وقد صاروا بالغين، فيأخذونه على محمل الجدية، ويفتشون عن الحل الكامن منذ البداية فى دواخلهم؛ فلا يعثرون عليه.
إلى جانب التفسيرات المحققة، لا ينبغى التهرب من حقيقة دامغة؛ مؤداها أن معرفتنا لم تزل قاصرة عن تحليل كل ما يصادفنا من ظواهر، وأن جهلنا الحالى لا يعنى أن ننسب ما خفى علينا لأمنا الغولة أو الساحرة الشريرة؛ فالتاريخ يوثق على سبيل المثال حالات من التشنج والانقباضات العضلية العصبية؛ أرجعها الناس فى زمن بعيد لا إلى مرض محدد المعالم، بل إلى كائنات غير مرئية تتلبَّس المُصاب؛ ولما تقدم الطب أثبت الأسباب ووضع الدواء.
لم تزل كبريات شركات الإنتاج تقدم دراما الرعب، ولم يزل الناس يطرقون دور العرض ليطلقوا الصرخات ويستسلموا لانفعالات عنيفة، ومن المنصف القول بأن هذه اللحظات تخرج ما تراكم فى النفس من ضغوط وتسمح بتفريغ شحنة هائلة من التوتر، والحق أن الواقع صار مرعبًا بما يكفى للتغلب على منافسيه من كتاب ومخرجين.
أخيرًا، لا يمكن إغفال دور الوعى الجمعى الذى ما إن تصادفه أزمات عارمة عميقة، فإنه يلجأ إلى حلول بسيطة؛ لكنها تتسم بكونها خارجة عن السيطرة، فإذا كانت هناك قوة فاسدة غير خاضعة لقوانين البشر وقواعدهم؛ أمكن عزو الشرور إليها، وألقى عليها اللوم بلا تحفظ؛ تلك آلية دفاعية نستخدمها ما عجزنا عن حل صراعاتنا وما أردنا العيش فى سلام داخلى وإن أدركنا مدى زيفه.

جميل مطر وبسمة عبد العزيز الكاتب الصحفي جميل مطر والكاتبة الصحفية بسمة عبد العزيز
التعليقات