هَـوَان - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 11:40 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هَـوَان

نشر فى : الجمعة 9 أغسطس 2019 - 11:25 م | آخر تحديث : الجمعة 9 أغسطس 2019 - 11:25 م

قال المُتنبي وليتَه ما قال: مَن يَهُن يسهُل الهوانُ عليه ... ما لجُرحٍ بميتٍ إيلام. بيتٌ ذاع صيتُه، وتحوَّل إلى حكمةٍ خالدةٍ لا نكُفُّ عن استخدامِها؛ إذ تكون في أوقاتِ بؤسِنا المُتجَدِّدة، خيرَ ما يَصِفُ الحالَ ويُشَخِّصها. لا يحتاج البيتُ إلى تفسير أو استجلاء، فقد صِيغ معناه في صورٍ مُتعَدِّدة، ولا أشهر مِن المأثور الأليم: "لا يضير الشاهَ سلخُها بعد ذبحِها". ثمَّة ما يقع فيجُبُّ كلَّ ما يأتي بعده، ويجعل ألمَه أمرًا لا يُذكَر؛ ثمّة ما يحدث فيهُون إلى جانبه أيُّ شيء، ثمَّة ما ينكسر فتغدو الشروخُ غير ذات بالٍ إذا قِيسَت عليه.

***

حين يصمت الناسُ عن فعلٍ لا يرتضونَه، وحين تمُرُّ الصفعةُ مُرور الكِرام، فلا وقفةٌ ولا صرخةٌ ولا اعتراض؛ تتوالى مِن ورائِها الإهاناتُ وتصبح طقسًا عاديًا مِن الطقوس؛ السكوتُ مَرَّة يضاعف عددَ المرات. حادثةٌ تلحق بالأخرى، واقعةٌ مُزرية لا تستحي التكرار، فاجعةٌ تشيبُ لها الرؤوسُ وتميلُ الأعناق، إهمالٌ وتلاعبٌ واستهتار، كُلُّ النوازل تمضي بلا حساب ولا جزاء؛ فالهوانُ يفعلُ بأهلِه الكثير، ولا تقف تبعاتُه عند حدود.

***

الهَوانُ في مَعاجم اللغةِ العربيةِ نقيضُ العِزِّ، والمَهانة مِن الحقارة، وأَهانَه واسْتَهانَ به؛ أي عامَلَه باستِخفَافٍ ولم يُوفِه حقَّه مِن الاحترام، وإذا قيل عن رجلٍ؛ فيه مَهانةٌ، كانت إشارةً إلى ما يتَّسِم به مِن ذُلٍ وضَعف. هانَ عليه الشيءُ أَي خَفَّ، والأمر الهَيِّنٌ هو السهل، وإذا قِيل هَوِّن عليك؛ فخفِّف عن نفسِك ولا تحملُ الهمَّ.

***
غنى عبد الوهاب مُتأسيًا: قالوا لي هَان الوِد عليه، ثم إذا به يَردُّ على الذين قالوا؛ مُقرًا بمِحنتِه، مُضيفًا إليها المَزيد؛ فالذي هانت عليه مشاعر الودّ، لم يكُن مِن الأصل مَعنيًا بها ولا مُلتفتًا إليها، والمُحبُّ عارفٌ بحقيقةِ وضعِه؛ يُفصِح لمَن تشفُّوا في مُصابه، وكشفوا بلواه، بأنه لا يتوقَّع مِن المَحبوب أن يتذكَّره ولا يأمل في ما يُكافئ وَجدَه ويُلاقي هَواه.

***

كُلَّما ازدَادَ التَّعبُ ولاح الطريقُ طويلًا؛ ظَهَرَ مَن يقول: "هانت"، الغرضُ مِن القولِ شَدُّ الأزر واستحضار العزيمةِ، وتحريضُ المُتعبين على استكمال ما بدأوا، والقصد أنَّ الجهدَ الذي بُذِلَ كبيرٌ، وأنَّ المسافةَ به قد قصرت، ولم يبقَ على الوصولِ إلى المُراد إلا القليل. مسافاتُنا شاسعةٌ، والأمياُل التي نقطعها تتوالد وتَنبُت على امتدادها العراقيلُ، لكن الثقةَ في قُربِ زوالِ الغُمَّة أكيدةٌ، والدروسُ على قسوتِها؛ تُثمِر وتَبني ولا تضيع.

***
أهُون عَليك؟ سؤالٌ ينتظر سائلُه النفيَ بكُلّ تأكيد. يَستَدِرُّ به كلمَةً تُهدئ خاطرَه وتُطَمئنه، وتدرأ عنه عاقبةَ سوء. لا يُطرَح استفهامٌ كهذا إلا ووَشى بسابقِ مَعرفة، وبعاطفةٍ كانت طيبة؛ فتوارَت لعِلَّة مِن العِلَل، وخَلَفَت أنقاضًا مَحلَّها. على كُلٍّ؛ قد يأتي الردُّ على غير المُشتهَى، وتكون الإجابةُ القَاصِمةُ التي لا استدراكَ بعدها. ما يَهُون على المَرءِ يومًا؛ فيُترَك في يُسرٍ، ويُهجَر بغير مُكابدةٍ ومَشقَّة؛ لا يُمثِّل أهمِّيةً حقيقيةً له؛ مهمًا بدا ثمينًا عند الآخرين.

***
الهَيِّن هو السَّهلُ البسيط، والصعبُ نقيضُه. السَّهلُ في العادةِ قليلُ القِيمة، بينما الصَعبُ العسير قِيمتُه عَاليةٌ ومَكانتُه رفيعة؛ ما تنسجُ الآلاتُ في المصانع سهلٌ مُتكَرِّر، وما تَشغلُ الأيدي وتُدَقِّقُ الأناملُ صَعبٌ نادر؛ والقيمةُ المَادية لكُلٍ مِنهما تفضَح الرخيصَ مِن الثَّمين. جرى العرفُ على وَصفِ المُمتاز مِن النُصوص بالسَّهلِ المُمتَنِع، والمَعنى أن صعوبتَها تكمُن في ظاهرها الهَيّن، مَقرونًا بجوهرِها النبيل.

***

أهَانت عَليك نفسُك؟ سؤالٌ يَحمِلُ استنكارًا أصيلًا ما طُرِحَ في الواقعِ، وهو كذلك تعبيرٌ مَحفوظٌ في الأعمال الدرامية؛ يُلقَى إذ تُقدِم إحدى شخصياتُ العَمَل على إيذاءِ نفسِها، وينجح الآخرون لدواعي الحكاية في إنقاذها، ثم تجيء لحظةُ المُواجَهةِ التي ينتظرها الجُمهور، وينبثقُ السؤالُ مِن هول الحَدَث؛ لكنه لا يَحظى في العادة بإجابة، بل بإيماءةِ رأسٍ أو إشاحةِ وَجهٍ، وربما صَمت عَميق.

***

تَهوُن على المرءِ نفسُه ما صارَ مَصيره في يَدِّ غيرِه، ما انصَاع وأذعَنَ وانحنى، وما التصق ظهرُه بالحائطِ واختاره العَجْزُ رفيقًا دائمًا. يتلاشى كبرياؤُه تاركًا أثرًا مُوجعًا، ويكون الهَوانُ أقسى ما اختبر.

***

أنشَدَ الأضبَط بن قُرَيع السَّعديّ: وَلا تُهينَ الفَقيرَ عَلَّكَ أَن ... تَركَعَ يَومًا وَالدَهرُ قَد رَفَعَه، والقصد أن يتَحَسَّبَ المَرءُ لما هو آت، فالحال قد تنقلبُ رأسًا على عَقِب، ويتحوَّل المُتعالي إلى ذَليل، والمُستَهين بأرقَّاء الحالِ مِن الناسِ إلى راكعٍ فقير، فيما يصيرون أعزّاءَ أقوياء. الأيامُ دُوَل والغَلَبَةُ كما يُؤمَل؛ لأصحابِ الضمير.

***

كُلُّ شيءٍ يَهُون في سبيلِ الوَطن؛ عبارةٌ ما فتئنا نسمعها ونردِّدها، ونستعين بها صبرًا على الخُطوب، لكن تعريفَ الوَطنِ ذاتِه ما بَرِحَ غامضًا، غائمًا في الأذهانِ والعقول. عند أصحاب البَصيرة؛ الوطنُ في المَقامِ الأول بَشَرٌ، ومَقامُ البَشرِ سابقٌ على الحدودِ والقُيود، وما دام البَشرُ في هَوَان، هان الوَطنُ وخَزِيَ؛ إذ لا يستقيمُ على اختلافِ الظُروفِ والأحوال، أن يعلو مِن المُعادلةِ طَرَفٌ، وتدهسُ الآخرَ الأقدامُ والنعال.
***

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات