‎المَدفَن - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الأحد 1 يونيو 2025 8:25 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

‎المَدفَن

نشر فى : الجمعة 30 مايو 2025 - 7:30 م | آخر تحديث : الجمعة 30 مايو 2025 - 7:30 م

‎تقفز الصُّورةُ أمامي باطراد، تطاردني ولا تفارقُ ذاكرتي: مَدفَن طَه حسَين الذي بات محشورًا أسفل كوبري من الكباري المُستحدَثة. المَدفَن في التصميمِ الجديد للمكان يبدو مُضحكًا وعجيبًا في آن؛ إذ العادة أن تكرّم الدولُ أعلامَها وعظماءَها في حياتهم أو حتى عَقب مَماتِهم؛ أما أن تحاولَ حَجبَ ذكراهم واستبعادَها من مَجال الرؤية؛ فأمر غير مُتعارف عليه.
• • •
‎دَفَن المرءُ الشيءَ أيّ؛ واراه التراب. الفاعلُ دَافِن والمفعولُ به مَدفون، أما المَدفونة فأكلةٌ تونسيَّة الأصل؛ تتكوَّن من اللحم والسَّلق واللوبياء وبعض التوابل، وتُقدَّم ساخنة. إذا دَفَن الواحد نفسَه في العمل فقد انهمك فيه، وإذا دَفنَ رأسَه في كتابٍ لساعات؛ فعلامة انجذاب للمحتوى، أو مُحاولة للهَرب مِن عملٍ مكروه.
• • •
‎زيارةُ المَدافن عادةٌ قديمة، يُمارسها بعضُ الناس في الأعيادِ والمناسبات. طقسٌ احتفاليٌّ يُحاط بالاهتمام والرعاية. سَمعت من أمي عن القُرَص التي كانت تشارك بهذه المناسبة في إعدادِها وتوزيعها وتناولها أيضًا؛ وهي بعد بعمْر الطفولة، تحكي بشَغفٍ عن رِحلة مُحبَّبة، وعن مذاقٍ مُمتِع لا مثيل له الآن بين مُختلَف أنواع المَخبوزات، والحقُّ أن كثيرَ المُجتمعات تتشارك الاحتفاءَ بالموتى عبر طهي الطَّعام، وخلال التأبين الذي يَعقُب الدَّفنة؛ تقدَّم الأصنافُ المُتنوعة ويَتبادل المشيعون الأحاديث فيما يأكلون. تراجَعت هذه العادةُ مع الالتهاءِ بتفصيلاتِ المَعيشَة التي أمسَت عَسيرةً، واتبع كثير الناسِ رغمًا عنهم؛ الأمثولةَ الشعبيَّة الشهيرة التي تقرّر أن الحيَّ أبقى من المَيت.
• • •
‎في مُنتصَف الثمانينيات قدَّم المُخرجُ علي عبد الخالق فيلم "مَدافن مَفروشة للإيجار"؛ بطولة نجلاء فتحي ومحمود ياسين؛ وفيه يُضطرُّ أفراد إحدى العائلات للإقامة بالمقابر بعد إزالة منزلهم، ثم يَصدر قرارٌ بإزالة المَقبرةِ نفسِها بسبب بناءِ كوبري؛ فينتقلون للإقامة في بَهو المَحكمَة؛ وكأن القصَّة استشرافٌ ثاقبٌ للمُستقبل المؤلم. من خلال أحداث فيلم "الشَّقة من حقّ الزَّوجة" بطولة محمود عبد العزيز ومعالي زايد؛ يلجأ البطلُ مع احتدام أزمته الأسريَّة لاستئجار مَدفَن يقيم فيه؛ مدفوعًا بوَضعِه الماليّ المتدهور. السَّكَن في حوش مَدفَن فكرةٌ تبدو مُزعِجة على المستوى الإنساني؛ لكن المَوتى للحقّ مُسالمون، لا يتشاجرون ولا تتولد بينهم ضغائنٌ وأحقاد، كما أن المكانَ يخلو من ضجَّة المدينة المُرهِقة. المدفنُ مَوضِعٌ مثاليٌّ لكلّ ذي مزاجٍ مُعتل؛ يُزعجه الصَّخْبُ ويقضُّ مَرقدَه، ويجعله راغبًا في اعتزال الناسِ والانفرادِ بالذات.
• • •
‎إذا أقسَم واحدٌ أن يدفنَ آخرَ في مكانه؛ فتهديدٌ واضح وصَريح. إنذار بإمكانية إنهاءِ الموقفِ في التوّ واللحظة؛ دون إفساح مجالٍ لأخذٍ ورَدّ أو حتى لعِراك. حلٌّ جذريٌّ وسريع للمُشكِل، يُوفر الوَقتَ ويمنع التكرارَ؛ لكنه يقضي أيضًا على فُرصِ التراجُع والاستدراك.
• • •
‎إذا دَفَن الواحد رأسًه في الرمال؛ فهربًا من المواجهة، والعادةُ أن نهربَ من أزماتنا؛ ننفيها ونُنكرها ونؤكد أننا في أطيب حال، لا شكوى ولا تذمُّر. نترك الأمورَ لتستفحلَ راجين الحلَّ المُعجِز القادمَ من أعلى؛ لكن الحلولَ تنبع ولا جدال من بيئةِ الأزمة، والمُجتمع بأكمله مسئولٌ عن ابتكارها والسَّعي لتفعيلها.
• • •
‎هناك مَن يَدفن السرَّ ويحبسَه في أحشائه ويؤكد لمن ائتمنه: "سِرَّك في بير"، وهناك من يُفشيه ويجعله مضغةً في الأفواه، ولا عجب حينئذٍ أن يتهامسَ الناسُ حوله قائلين: "ما تتبلش في بُقه فوله"؛ والمراد أن فمَه لا ينغلق ولو لفترة قصيرة.
• • •
‎المشاعر الدَّفينة هي تلك المَكبوتة، المُستقِرَّة في مكان حصين لا تخرج منه بسهولة، والقادرة على دفع صاحبها لارتكاب أفعالٍ مُفاجئة لا يملِك تفسيرَها، والحقُّ أن الدوافعَ النفسيَّة التي تحرضُ المرءَ على التصرُّف بصورة معينة؛ قد تبقى غامضةً مَحجوبةً عن العقلِ والإدراك.
• • •
‎تعرَّضت كثير المدافن العتيقة لحملاتِ هَدمٍ شَرسة، وكأن محوَها من خريطة التاريخ هدفٌ بذاته. ثمَّة كنوزٌ مَدفونة في أعماق الأرض بعيدة عن النظر يُنقب عنها الباحثون، وأخرى ظاهرة للعين مَكشوفة أمام الناس؛ إنما لا يدرك مقدارَها سوى العارفين بأصلِها وفصلها، الحريصين على صَون كلّ ثمين؛ لا على حذفِه من الوجود.
• • •
‎أحيانًا ما نحاول تجاهلَ مشاعرنا والتعاملَ مع الواقع بشيء من اللا مبالاة. نتجاوز ما اعتدنا الوقوفَ أمامه ونجد في التغاضي عنه وتناسي تفصيلاته راحة. نمضي في حياتنا مُتوسلين الأمنَ والاطمئنانَ والسلام؛ فما إن نركن إلى النجاحِ الذي حقَّقنا؛ حتى نتبين أن شيئًا لم يَنقضِ، وأن هذا الذي تصوَّرنا أننا عبرناه دون رَجعة؛ بات مدفونًا في أعماقنا، يشاكسنا ويُحاصِر حاضرنا. اعتاد بعضُنا أن يواريَ ألمَه ويُهيل عليه التراب. عَرفت من دفنوا أوجاعَ الفقد ولم يذرفوا دَمعة ولا زفروا آهة، مرَّت الأيامُ والسنين وإذا بهم يسترجعون الحدثَ الأليمَ ويُخرجون انفعالاتهم دفعةً واحدة؛ وكأنها كانت حاضرةً طيلة الوقت، تنتظر اللحظةَ المناسبةَ كي تظهرَ على السَّطح.
• • •
‎بينما الأشلاءُ والعظام تُدفَن تحت الأنقاض، وبينما الذكرياتُ العزيزةُ والمُنمناتُ التي تصنع تاريخَ البشر تُدَكُّ وتتبخَّر؛ تمضي الحياةُ على عادتها بالمتفرجين. يتغاضون عن الفاجعة مرَّة ويلوكون سيرتها مرَّات، ولا يتوانون عن إعلانِ عجزِهم؛ مُتصورين أن أيديهم ما برِحت نظيفة. فيما يحدث على أرضِ فلسطين تحدٍ عظيم واختبار قاسٍ لكلّ من بقي بداخله ضمير.
• • •
‎إذا قرَّر الواحد دفنَ الماضي والالتفات لحاضره؛ فخطوةٌ جَيدة يتطلع من خلالها إلى المستقبل؛ لكنها لا تعني إهمالَ ما فات وغضَّ البَصر عن الدروس والعِبرات. الحكمةُ تقتضي النظرَ إلى التجاربِ المُتعاقبة، وفحصَها بعين النقد والاستيعاب، وبرغبةٍ أصيلة في التعلُّم وعدم تكرار الخطأ.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات