على هامش الجبن الرومي - نيفين مسعد - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 11:43 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

على هامش الجبن الرومي

نشر فى : الخميس 10 نوفمبر 2022 - 9:30 م | آخر تحديث : الجمعة 11 نوفمبر 2022 - 1:21 م
منذ كتبَ الصحفي المرموق محمد بصل مقالًا بصفحته على الفيسبوك عن الطبعة الجديدة من كتيّب أبو بكر الطرطوشي "رسالة في تحريم الجبن الرومي"، وهذا الموضوع يثير فضولي بشكل غريب، فلقد كنت أظن أن تحريم الحاكم بأمر الله أبو علي المنصور -سادس حكّام الدولة الفاطمية-أكل الملوخية والجرجير هو أمر فريد في التراث العربي والإسلامي، فإذا بمحمد بصل يفاجئني بالمزيد من ألوان التحريم التي تتجاوز عندي وأظن كذلك عند محبّي الجبن الرومي كل الخطوط الحمراء. والذي يرجع منّا إلى تعليقات القرَاء على مقال محمد بصل يدرك جيدًا جدًا هذه الحقيقة، ففيها من الغزَل في لذة طعم الجبن الرومي ما يعكس لنا حجم الصدمة من فتوى الطرطوشي ذلك الفقيه الشهير الذي هاجر من الأندلس إلى مصر فتزّوج فيها واستقّر بها على عهد الدولة الفاطمية أيضًا. وفي تفسير سبب منع الطرطوشي أكل الجبن الرومي أورد المقال ثلاثة أسباب، أحدها سبب سياسي/اقتصادي وهو أن الجبن الرومي مستورَد من أوروبا وبما أنها في حرب مع الدول الإسلامية، بالتالي فإن الامتناع عن أكل الجبن الرومي من شأنه أن يلحق ضررًا باقتصاد أوروبا. أما السببان الثاني والثالث فهما سببان دينيان، سواء للاعتقاد أن الجبن الرومي يدخل في صناعته شحم الخنزير وأكل الخنزير محرّم في الشريعة الإسلامية، أو لمخافة أن يؤدي تخزين الجبن الرومي إلى وضعه فوق لحم الخنزير المجفف وبالتالي يتأثر به، وهذا السبب بالذات سبب عجيب فطالما افترض السبب الثاني أن الخنزير يدخل في تصنيع الجبن الرومي فما الحاجة للحديث عن ملامسة الجبن الرومي للحم الخنزير وبالتالي تحريم المحرّم أصلًا؟!!!. هذا المزج بين السياسي/الاقتصادي من جهة والديني من جهة أخرى في تحريم الجبن الرومي- ربما كان يشبه فتوى تحريم التبغ التي أصدرها أحد أبرز علماء الشيعة في القرن التاسع عشر وهو ميرزا محمد حسن الشيرازي، فبالإضافة إلى ما نتصوّره من سند ديني لتحريم التبغ بسبب أضراره الصحيّة المعروفة، جاءت فتوى الشيرازي ردًا على إبرام شاه إيران ناصر الدين شاه اتفاقًا مع إحدى الشركات البريطانية يمنحها حق احتكار تجارة التبغ، وهذا الأمر كان يصيب بالضرر قطاعًا واسعًا من الإيرانيين الذين يعيشون على الإتجار في التبغ. وهكذا تجاوَب عدد كبير من الإيرانيين مع فتوى الشيرازي كما تقول لنا كتب التاريخ مما أجبّر شاه إيران على فسخ العقد مع الشركة البريطانية، لكن إذا كان هذا هو حال الإيرانيين مع فتوى الشيرازي فماذا كان يا ترى رد فعل المصريين إزاء فتوى الطرطوشي: هل طاوعتهم قلوبهم على مقاطعة الجبن الرومي فعلًا أم تمردوا على الفتوى محبةً في هذا النوع الشهي من الجبن؟ لم يخبرنا محمد بصل في مقاله.
• • •
أخذني فضولي إلى البحث عن أنواع الطعام التي يتّم تحريمها أو حتى يكون غير محبّذ أكلها في بلداننا العربية- فمَن يقدر على تحريم أكل الجبن الرومي يقدر على تحريم أكل أي شيء. عرفتُ مثلًا أن ما يُعرَف "بأسماك الجري" منهى عن أكلها في العراق، و"أسماك الجري" هذه ليس لها قشر يحميها من التلوث وتوجد منها أنواع كثيرة تربو على الألف نوع، وإذا كان صغارها يفيدون في الحماية من العديد من أمراض القلب والذاكرة والجهاز التنفسي، إلا أن كبار "أسماك الجري" تكون ضارة بحكم كثرة الملوثّات التي تتعرض لها على امتداد عمرها الذي قد يصل إلى ستين عامًا (بدت لي معلومة أن هناك سمكة تعيش ستين عامًا معلومة مثيرة جدًا)، ولذلك فإن التحذير من بعض أنواع هذه الأسماك يتجاوز العراق ليشمل العديد من الدول التي تعيش فيها بما في ذلك الولايات المتحدة وكندا، علمًا بأن "أسماك الجري" هذه قلّما تعيش في المياه الأوروبية. كذلك يوجد جدل كبير حول أكل لحوم الأرانب، ويتم تحريم تلك اللحوم لأسباب مختلفة منها أن الأرانب من الثدييات، ومنها أنها في الأصل كانت عبارة عن نساء لم يكنّ يغتسلن فتمّ سخطهن على هذا النحو، أو أن لها مخالب كمثل مخالب النسور، وبذلك يختلط الواقع بالأساطير خصوصًا ما يحمل منها صورة سلبية عن المرأة. ومع أن تحريم أكل لحم الأرانب ثابت في المذهب الشيعي الإثنا عشري وليس عند فقهاء السُنّة، إلا أن هناك من السلفيين مَن يأخذ بهذا التحريم ويستند في ذلك إلى أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يأكل لحم الأرنب وعندما أهداه له أنس بن مالك شكره على هديته ولم يقربه، وهناك مَن يرّد على ذلك بأن هذا ليس دليل تحريم لكن ربما كان امتناع نبيّنا الكريم عن أكل لحم الأرنب بسبب عدم الاستطابة أو عدم التفضيل ليس أكثر.
• • •
استقصيتُ أكثر عن الموضوع فعلمتُ مثلًا أن أكل الطحال غير محبب بالنسبة للنساء اللائي يعشن في المناطق السهلية في المملكة المغربية، وإن كان هناك من يتوّسعون في تحريم أكل الطحال بالنسبة للنساء والرجال معًا ويستندون في ذلك إلى واقعة منسوبة إلى الإمام علّي بن أبي طالب كرّم الله وجهه نهى فيها عن أكل الطحال مميّزًا في تحريمه بينه وبين الأكل المباح للكبد. وفي الجزائر يوجد نوع من السحالي يُطلَق عليه اسم "الشرشمان" أو "سمكة الرمال" ويعيش في الولايات الصحراوية في جنوب الجزائر، وهذه السحالي التي يحتاج قنصها إلى صيّادين محترفين للخوض في الكثبان الرملية المتحركة لا تلقى إقبالًا على أكلها داخل الجزائر، وإن كان يتم تهريبها على نطاق واسع إلى دول الخليج وبالذات السعودية أثناء رحلات الحج والعمرة، كما يتم تهريب هذا النوع من السحالي لدول آسيوية غير عربية وفي مقدمتها الصين واليابان وسنغافورة، هذا علمًا بأن "الشرشمان" تعالج بعض الأمراض الجلدية وكذلك بعض الاضطرابات النفسية. وفي مصر لم أصادف فتوى تحرّم أكل الضفادع لكني في الوقت نفسه لا أعرف في محيطي الأسري والعملي مَن يأكلونها، وفي وقت من الأوقات كانت مصر تصدّر ضفادعها للخارج بكثافة وإلى فرنسا بالذات حيث يُعدّ حساء الضفادع من الأطباق المحببة على موائد الفرنسيين، ثم تراجعت الصادرات المصرية بعد أن تم إطلاق ما يشبه الديدان في الترع لالتهام الكائنات الضارة فالتهمت معها بيض الضفادع، واضطربَت خطوط الإنتاج.
• • •
هكذا تتنوّع أسباب العزوف عن أنواع معينة من الأطعمة في تراثنا العربي والإسلامي ما بين سياسية/اقتصادية ودينية وصحية واجتماعية ونفسية أيضًا، فبعض الأكلات كما رأينا لا تفضلّه شعوب معينة لأسباب تخصّها وحدها بينما أن نفس هذه الأكلات تجدها شعوب أخرى كما نقول في المثل الشعبي "فرخة بكِشك"، والأمر كله مرهون بالذائقة الشعبية. وفي مكتباتنا التراثية العديد من الكتب المغرمة بالحديث عن أنواع الطعام واختلافها باختلاف فصول السنة وباختلاف النوع بين الذكر والأنثى، وبالتمييز فيها بين المحرّم والمكروه، كما أن هناك أبوابًا كاملة لاستعراض آداب الطعام، هذا كله معروف. لكني حتى اللحظة التي قرأت فيها مقال محمد بصل كنت أعتبر أن الجبن الرومي موضع إجماع وفوق مستوى الشبهات، وأنه من الأطعمة التي تتحقق معها "المؤاكلة" أي ظاهرة الأكل الجماعي بين أفراد الأسرة وبينهم وبين الضيوف، فبضع قطع من الجبن الرومي القديم بالفلفل الأسود مع الخبز الفينو وحبذا لو كان الخبز هو الباجيت الفرنسي، أو داخل الخبز الشامي مع قليل من الزبد ويُزجّ به في الفرن لعدة ثوان (وهذه الأكلة كانوا يسمونها في رأس البّر بالوزّة)، هذا كله كفيل بأن يجذب الآكلين إليه جذبًا كما لو أنه مغناطيس. أما وقد قرأتُ المقال المثير إياه فلقد تبيّن لي أن الشك وارد ويمكن أن يطول حتى ثوابت الطعام في عُرفِنا.
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات