حينما توقف الغناء الرفيع - يوسف الحسن - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 2:50 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حينما توقف الغناء الرفيع

نشر فى : الثلاثاء 11 أبريل 2023 - 9:10 م | آخر تحديث : الثلاثاء 11 أبريل 2023 - 9:10 م
كتبت، منذ أيام، عن الغناء الجميل المؤثر فى الوجدان والأفئدة، والعابر للمسافات والأزمنة والحدود الجغرافية، والمحفز للمحبة والطهر والتفاعل الإنسانى، والمخاطب ما فينا من حنين إنسانى مشترك.
واليوم، أستحضر أم كلثوم، الشعر والغناء، والذائقة الفنية، والأداء الإبداعى، والتى ارتقت بالغناء ورفعت قدره ودوره الاجتماعى، وأعادت للغة العربية الفصحى اعتبارها وارتقت بالعامية. وانتزعت عن جدارة احترام المجتمع، وشكلت ظاهرة فريدة فى تاريخ العلاقة بين الشعر والغناء.
نقلت الغناء العربى من حضيض الإسفاف فى الكلمة واللحن، والمتع الرخيصة، و«غناء الليل» من أجل الربح السريع، إلى ذرى الجمال، أداء ومعنى وشعرا ولحنا، وصفقت لها الجماهير العربية ونخبها، وهتفت باسمها «كأنها زعيمة وطنية وقومية، لا كمغنية».
أستحضر سيرتها، سيرة «ست الكل» كما وصفها المصريون، وفى الذاكرة، «ڤيلا» أم كلثوم فى شارع أبى الفداء بالزمالك وأمسيات أول خميس من كل شهر، حينما كان يتجمع عشاق صوتها، أمام أجهزة الراديو، لسماعها وهى تغنى للمحبة والشوق والفراق، وتنشد للأوطان وللنهوض، وتمزج الحماسة الوطنية بالأشواق الروحية الدينية النقية.
عرف جيلى الكثير من نصوص شعرية عظيمة لشعراء عرب عبر العصور من خلال أغانى أم كلثوم، أكثر مما عرفه من دواوين هؤلاء الشعراء، وربطت بين موروثات شعرية فى أزهى عصور الشعر، وبين أشعار الحاضر، وحققت بذلك تواصلا حضاريا رائعا.
عشقت الشعر، وقرأته بشغف وتذّوق، ورأى فيها جمال عبدالناصر، (فلاحة مصرية بحس وطنى رفيع)، وشخصية عصامية النشأة والتكوين، ووليدة «الإنشاد الدينى»، ونجحت بامتياز فى صقل حسها اللغوى، وقرأت الشعر القديم، و«كتاب الأغانى» و«حماسة أبى تمام» وغنَّت لأبى فراس الحمدانى (أراك عصى الدمع) والشريف الرضى، ولأكثر من خمسين شاعرا، وعلى رأسهم أمير الشعراء أحمد شوقى.
• • •
استضافها رؤساء دول عربية فى بيوتهم، ومنحها ملوك ورؤساء الأوسمة الرفيعة، وتفاعلت مع أحداث مهمة فى تاريخ مصر ودول عربية أخرى، وأبدعت فى تقديم نشيد «والله زمان يا سلاحى» الذى أصبح نشيدا وطنيا لمصر، قبل تغييره إلى نشيد «بلادى بلادى» وقامت بجولات غنائية إثر حرب 1967، إلى فرنسا والمغرب وتونس ولبنان والسودان وغيرها، وجمعت أموالا لدعم المجهود الدفاعى الحربى لبلادها، وأثارت الحماسة والوطنية فى وجدان الناس، وغنت فى أبوظبى بعد الاستقلال، وأهداها المغفور له الشيخ زايد، عقدا من اللآلئ الطبيعية، يعود إلى عام 1880، عرفانا لقيمة أم كلثوم فى فن الغناء الرفيع، وحسها الوطنى الأرفع.
تغنت أم كلثوم بمولد الرسول، صلى الله عليه وسلم، وبشمائله وبإسرائه ومعراجه، وصارت أغنيتها «ولد الهدى» معلما من معالم تاريخ المديح النبوى، وقدمت غناء لقصائد طويلة مليئة بالروحانيات والعاطفة الدينية، كما تغَّنت فى الحنين والحزن والذات الباكية والرومانسية المتألمة.
وغنَّت أم كلثوم رثاء حزينا عند رحيل جمال عبدالناصر كتبه الشاعر نزار قبانى: «عندى خطاب عاجل إليك ــ من أرض مصر الطيبة ــ من الملايين التى تيَّمها هواك ــ من الملايين التى التى تريد أن تراك ــ لكننى لا أجد الكلام».
• • •
بعد هزيمة 1967، لبست أم كلثوم ثياب الحداد، لكن أزمتها الصحية والنفسية حدثت فى السنوات الثلاث الأولى لتولى السادات رئاسة مصر، وبروز دور السيدة جيهان السادات، التى أخذت تبحث عن بديل رسمى منافس لأم كلثوم (غيرة أو كيدا أو ثأرا) ، ويبدو أن «القشة التى قصمت ظهر البعير» جاءت حينما ذهبت أم كلثوم، ضمن وفد من الفنانين المصريين الكبار، إلى منزل الرئيس السادات بالجيزة، لتهنئته بالفوز برئاسة الجمهورية، ونادته أم كلثوم قائلة، أثناء هذه الزيارة: «مبروك يا أبو الأنوار»، وهى تسمية تعبر عن التدليل الشعبى المصرى لاسم أنور. وكان السادات على صلة دائمة بأم كلثوم، يزورها ويحضر مجالسها وحفلاتها الغنائية فى عقود سابقة، وظلت أم كلثوم، تنظر إلى السادات، على أنه «اليوزباشى» الذى قدَّم لها التحية العسكرية على باب الطائرة، وهو يودّعها أثناء سفرها إلى أمريكا، فى منتصف الخمسينيات، حينما انحبس صوتها بسبب مرض فى الحلق، وتطوعت البحرية الأمريكية فى مركزها الطبى، فى ولادية ماريلاند، بإجراء عملية جراحية لها.
وحينما سمعت السيدة جيهان السادات أم كلثوم وهى تخاطب الرئيس بـ «أبوالأنوار» أو «أبوالأناور»، وكانت حاضرة فى اللقاء، انتفضت بغضب بالغ، وقالت بقسوة وعنف، موجهة إصبعها إلى أم كلثوم: «إلزمى حدودك، إنك تتحدثين إلى السيد الرئيس»، وغادرت أم كلثوم الجلسة غاضبة، واعتكفت بعد ذلك شهورا عدة.
كانت هذه الرواية متداولة فى أوساط النخب الأدبية والدبلوماسية فى القاهرة، وتردد حينها أن جيهان السادات وجدت البديل المنافس، حيث وقع اختيارها على المدعوة (إفراج ابنة المقرئ الشيخ محمود الحصرى)، والتى قرأت القرآن فى حفل شاى نسائى، أقامته جيهان السادات فى منزلها، تكريما لفرح ديبا، زوجة شاه إيران، فى ذلك الوقت، وقال السادات إن صوت «إفراج» رائع، وإنها موهوبة «وبرائحة بلدنا وترابها» ولمع اسمها بعد وفاة أم كلثوم، وتغير اسمها إلى ياسمين الخيام واعتزلت الغناء عام 1990.
طوال عام 1975 تصدرت أخبار مرض أم كلثوم، الصحف والإذاعات، وفى يوم وفاتها فى فبراير 1975، وقف مجلس الشعب المصرى دقيقة حداد على روحها، وبعث الأمير عبدالله الفيصل عدة لترات من ماء زمزم «كواجب أخير».
• • •
تلقيت قبل أيام هدية ثقافية ومعرفية جميلة، مجموعة كتب من إصدارات مركز أبوظبى للغة العربية، وكان من بينها كتاب مميز فى موضوعه، وجديد فى مقاربته للشعر والغناء عند أم كلثوم، لمؤلفه الدكتور الأكاديمى أحمد يوسف على، بعنوان: «أم كلثوم» شمل نصوصا مغناة ومموسقة لشعراء عرب أفذاذ. وكشف لنا المؤلف فى هذا الكتاب شيفرة «شاعرية» أم كلثوم، وما ملكته هذه السيدة العظيمة من ذائقة عالية، فى الأداء والاختيار، وإعادة تركيب النصوص الشعرية.
يقول المؤلف، إنها كانت تختار بنفسها أبياتا من قصائد طويلة كتبها شعراء قبل قرون، أو عقود، قصائد لم تكتب للغناء أو النشيد، وكانت تعدّل فى بعض كلمات هذه القصائد، وقد طرح الكتاب العديد من التساؤلات التى تغيب عن عشّاق غناء أم كلثوم، ومن بينها: ما هى قدرات أم كلثوم اللغوية والفنية والفكرية فى عملية الانتقاء والتعديل؟ ولماذا استدعت من الشاعر أحمد شوقى تسعة نصوص شعرية من عيون شعره مثل «نهج البردة»، و«سلوا قلبى» أكثر مما استدعت أشعارا من آخرين.
وقد أرَّخ المؤلف بتفاصيل كثيرة لنصوص وتواريخ وسمات قصائد غنَّتها، وما صاحبها، فى ذلك الوقت، من تحولات اجتماعية وثقافية وسياسية. وقدم قراءة عميقة للشاعرية واللغوية والذائقة الفذة والجميلة فى أم كلثوم، غناء واختيارا للكلمات والمعانى واللحن.
ولعل اختيار مركز اللغة العربية فى أبوظبى لنشر هذا الكتاب الثقافى والفنى واللغوى والنص الشعرى، هو اختيار حصيف، يستحق التقدير، لتعزيزه جماليات «لغة الضاد» وما تكنزه من طاقات إبداعية.
ما زلت أذكر منديلها الحريرى، ونظارتها السوداء الشهيرة، و«البروش» على صدر فستانها المحتشم، وكيف مشيت مع عدد من الدبلوماسيين العرب أميالا عدة فى جنازتها التى خرجت من مسجد عمر مكرم، وسارت بصعوبة بالغة، عبر شوارع وسط مدينة القاهرة باتجاه مسجد الإمام الحسين تحيط بها الملايين من أبناء الشعب المصرى.
فقدت مصر هرمها الرابع، وتغير جو القاهرة ومفاهيمها، وتغيرت رائحة الشاى بالنعناع، وطعم عصير الليمون، وتوقف الغناء الرفيع.
يوسف الحسن  مفكر عربي من الإمارات
التعليقات