لم يعد السؤال مطروحًا، فيما إذا كان الحوار بين الأجيال، فى زمن العولمة وثورات التقانة والمعلومات والاتصال، ضروريًّا، لنقل الخبرات والممارسات الاجتماعية إلى الجيل الشاب، لحفظ الذاكرة الجمعيّة، وجعل التراث، ليس مجرد ماضٍ نرثه، بل جعله مستقبلاً تصوغه الأجيال معًا، وليظل حيّا ومتجددا، فى حياتنا المعاصرة والمستقبلية، والتى تموج بالتغيرات العميقة والتحولات المتسارعة. إنه أكثر إلحاحًا، ويتجاوز مسألة سرد روايات عبرت، إلى بناء جسور بين الأجيال، ترسخ حالة الوعى العقلى والوجدانى بالموروث الثقافى، وبالهوية الوطنية والإدراك التاريخى لها.
إن الحوار، ليس مجرد كلام متبادل بين جيل سابق، وآخر معاصر، إنما هو تفاعل وممارسة، ونقل لتجارب وخبرات حياتية، ولممارسات اجتماعية، واستلهامها فى حياة الجيل الجديد، تدوينًا وابتكارًا وإبداعًا.
الحوار الناجع والمؤثر، بين الأجيال، ليس مجرد إشراك الجيل الشاب، فى أنشطة وفعاليات تراثية، كجمهور أو مستفيدين، بل كشركاء فى توجهات المستقبل، وبما يجعل حفظ التراث وإحيائه والوعى به، مدخلاً للتمكين المجتمعى.
إن الأسس السليمة للحوار بين الأجيال، فى إطار حفظ التراث، تتجاوز شعارات الاهتمام بقضايا الجيل الشاب، إلى بناء ثقافة تأسيسية، وتعليم وتربويات ومهارات، ترسى قيم التقبل والاحترام للتراكم الثقافى، وتشجيع التفاعل الإيجابى بين الأجيال، كما تتطلب الإصغاء لحكمة وخبرة حياة كاملة، وفى الوقت نفسه، تفهُّم قضايا معاصرة يعيشها المجتمع.
ومن شروط الحوار الصحى بين الأجيال، إتاحة بيئة اجتماعية حاضنة له، وبيئة ثقافية تدرك بأن التغيرات فى البنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، تنعكس على كل جيل، وتعطيه سمات خاصة.
إن الحوار بين الأجيال، ضرورة ملحة فى كل الأحوال. لتبادل الأفكار والرؤى والخبرات، وتعزيز التفاعل الواقعى، ومد الجسور إلى المستقبل، وبناء مجتمع متماسك، وبذاكرة جمعية لا تخبو.
• • •
لنعترف أن هناك فجوة نعيشها اليوم، بين الأجيال. معالمها واضحة، فى ضعف التواصل والحوار، فضلًا عن ضعف أو حتى غياب النقاش العام فى العديد من المجتمعات العربية، فجوة بين جيل له خبرته الحياتية والعملية، وآخر له «عالمه الافتراضى»، وتجلياته فى أنماط السلوك وأنساق القيم، جيل مفعم بروح الشباب، ويعيش عصر «الصورة المعولمة» والمبثوثة عبر الوسائط البصريّة، وشبكات التواصل الاجتماعى المختلفة، الجذابة والمغرية، وعبر البث الفضائى العابر للحدود. يستهلكها بشراهة، تصنع خياله، وتؤسس وعيه بالعالم وبالأشياء، إيقاعها ضاغط، وتصنع الرموز والنجوم والقدوة، وسلطانها فى الأثر والنفاذ، أقوى من سلطان الأسرة التربوى، والمدرسة التعليمى.
عاش جيل الآباء والأجداد، الثقافة المكتوبة والشفاهية، والتى تعمق التأمّل والتفكر، إمّا اليوم فقد تأثرت عادات وتقاليد وأعراف وأنساق قيمية، ولغة (العربية كأداة تفكير وتواصل)، وجميعها عناصر منظومة، تعطى لكلّ مجتمع خصوصيته الوطنية، فضلًا عن متغيراتٍ، أفرزتها تحولات فى المستويات الإنتاجية والمعرفية والمعيشية، وفى هيكلية نظم من «القبيلة إلى الدولة».
نعم.. تعرضت مجتمعاتنا العربية لتغيرات كبيرة، وأسهم التعليم القاصر، الذى لا يُحسن فن الحوار والنقاش البنّاء والتفكير النقدى، فى تعميق الفجوة بين الأجيال، مما ولّد سوء فهم متبادل، وانقطاع معرفى بين الأجيال، فضلًا عن دور «الضجيج الرقمى»، و«سجن» الشاشات فى ترسيخ هذه الفجوة.
إنّ الحوار بين الأجيال. ضرورة وطنية ملحة، لملء فجوة تكبر باستمرار، وبخاصة فى زمن التسارع فى التحولات، وبروز عصر الذكاء الاصطناعى؛ حيث تعاد صياغة أدوار الجيل الشاب، كشريك فاعل، فى رسم خريطة توظيف التقانة لخدمة التراث واحترامه، لا مجرد مستخدم لهذه التكنولوجيا.
نحتاج إلى بناء الجسور بين الأجيال، لتعزيز نقل المعارف والخبرات والموروثات والممارسات الاجتماعية، بسلاسة ويسر ووعى، باعتبار أن هذه الممارسات الاجتماعية تسهم فى التنشئة، قيمًا وسلوكًا، وتعزز الهُوية الوطنية للفرد والجماعة، وتنظم العلاقات بين أفراد المجتمع، وبما يحقق التوازن بين الأصالة والمعاصرة، ويوفر سبل التمكين للأجيال الشابة.
نحتاج إلى خطط وتدريب وبرامج ومبادرات تجسّر الفجوة بين الأجيال، فى ظل التحديات الراهنة والمستقبلية ونحتاج ــ أيضًا ــ إلى مراجعة الموروث الثقافى، وقراءة نقدية تنقّيه (وهو صناعة بشرية قابلة للنقد) وتمنحه القدرة على مواكبة العصر، ومن خلال الفهم العميق والحى، بما يجعله قادر على المشاركة الفاعلة فى محركات ومتطلبات التنمية المستدامة والشاملة، وبما يعزز الوعى الجمعى بذاكرة ثقافية وهوية وطنية، وعناصرها الأساسية، كما نحتاج إلى استخدام التقانة فى نشره، وتعزيز الوعى بأهميته والتفاعل معه، فنونًا وسردًا وتمثّلًا، ودمجا لمفاهيمه فى المناهج الدراسية، والإعلام والدراما، وربطًا وجدانيًا بالتراث الثقافى، والثقافة الشعبية لدى الأجيال الشابة، للتراث الثقافى أهمية كبيرة، لدراسة تاريخ أى شعب، وفهم تطوره عبر الأجيال.
إن الحوار للتجسير بين الأجيال، هو بناء حالة تصالح بين التاريخ (الموروث الثقافى) والحاضر والمستقبل.
مفكر عربى من الإمارات
بالتزامن مع جريدة الخليج