فى معهد التخطيط القومى.. الأب المؤسس و«التخطيط» فى مصر الستينيات - نبيل مرقس - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 6:16 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى معهد التخطيط القومى.. الأب المؤسس و«التخطيط» فى مصر الستينيات

نشر فى : السبت 11 ديسمبر 2021 - 7:40 م | آخر تحديث : الثلاثاء 14 ديسمبر 2021 - 3:24 م

«... هو الدكتور إبراهيم حلمى عبدالرحمن الذى كان مؤسسًا للتخطيط فى مصر بدءًا بلجنة التخطيط القومى فى سنة 1955، ثم وزارة التخطيط ومعهد التخطيط القومى فى سنة 1960. كان لهذه القامة العلمية الرشيدة أثرٌ خاص فى تعميق فكر التخطيط بذاته علمًا وفنًّا، وبالاستعانة بجهابذة علم التخطيط وفنونه فى دول غرب أوروبا، ومنهم جان تنبرجن من هولندا وراجنر فريش من النرويج وشارل برو من فرنسا... وغيرهم».
كمال الجنزورى، طريقى.. سنوات الحلم والصدام والعزلة، دار الشروق، الطبعة الأولى 2013
•••
لم يسعدنى الحظ أن ألتقى بابن قرية كفر الوَلَجَا د. إبراهيم حلمى عبدالرحمن، أحد البنائين العظام فى «مصر الستينيات». حصل على بكالوريوس العلوم من جامعة القاهرة عام 1938، ودكتوراه فى علم الفلك من جامعة أدنبره بأسكتلندا عام 1941. تولى د. ابراهيم حلمى عبدالرحمن مناصب عدة فى جهاز الدولة المصرية بعد ثورة يوليو 1952 منها سكرتير عام مجلس الوزراء 1954 ــ 1957، ثم أصبح سكرتيرًا عامًا للجنة التخطيط القومى عام 1955 ولمدة عشر سنوات وضع خلالها مع فريقه المعاون الخطة الخمسية الأولى لمصر بعد الثورة. وأصبح أيضًا سكرتيرًا عامًا وعضوًا بلجنة الطاقة الذرية المصرية 1955 ــ 1958، وسكرتيرًا عامًا وعضوًا بالمجلس الأعلى للعلوم 1956ــ 1958. ولقد شارك فى تأسيس المركز القومى للبحوث عام 1957، وهو مؤسس وأول مدير لمعهد التخطيط القومى أعوام 1960 ــ 1963. وهو أيضًا مؤسس وزارة التخطيط عام 1960، وأصبح وزيرًا للتخطيط والتنمية الإدارية أعوام 1975ــ 1976. وقد شارك فى تأسيس، وأصبح أول مدير تنفيذى لمنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية بفيينا UNIDO فى أعوام 1966ــ 1974.
هو عالم الفلك الذى لم ينشغل بالمجرات البعيدة، بل شمَّر عن ساعديه بعزم الفلاح المصرى الأصيل الذى أحب الخضرة وعرف سر النماء فغرس بذور الحضارة فى أرض مصر المحروسة. تدثّر بحكمة الكهنة القدماء الذين نشروا الديانة المصرية القديمة فى جميع الأنحاء، فشيَّد مع أبنائه وتلاميذه ومحبيه عددًا من معابد العلم والعلماء تبحث فى أسرار الذرة، وتسعى لربط البحث العلمى باحتياجات المجتمع، وتخطط لصياغة المستقبل وترويض أحداثه. لم أعرف الرجل ولم ألتقه ولكنى سعدت وشرفت بتلمذتى على أيدى اثنين من أنبغ تلاميذه، د. وفيق أشرف حسونة أستاذى فى التخطيط الاجتماعى ورئيسى المباشر بمركز التخطيط الاجتماعى والثقافى بمعهد التخطيط القومى، ود. على نصار أستاذى فى مجالى الأساليب التخطيطية والدراسات المستقبلية ومرشدى الشخصى وقدوتى الأخلاقية والفكرية طوال عملى كباحث بالمعهد من 1977 وحتى 1986.
•••
فى ظل دولة يوليو 1952 وحلمها الثورى، حرص النظام الوليد على دفع عجلة التنمية مع إشاعة نمط جديد من العدالة الاجتماعية. واعتمد النظام الجديد فى بناء شرعيته الثورية على منهج التنمية المتسارعة لإنشاء مجتمع جديد يحظى بالكفاية فى الإنتاج والعدالة فى التوزيع. وقال جمال عبدالناصر فى افتتاح مقر هيئة التحرير ــ التنظيم السياسى الجديد المعبر عن ثورة يوليو ــ بشبين الكوم فى 23 فبراير 1953: ”إننا لا نبغى فقط نهضة عمرانية أو صناعية أو عسكرية، ولكننا نبغى نهضةً بشرية“.
وفى 3 أبريل 1954، خاطب عبدالناصر عمال النقل المشترك قائلا: ”أول أهداف الضباط الأحرار قيام عدالة اجتماعية... إن أهداف الثورة لم تكن إخراج الملك فقط، إنما كانت أساسًا لتغيير النظم الاجتماعية“. وتولى د. إبراهيم حلمى عبدالرحمن بوصفه سكرتير عام مجلس الوزراء صياغة مواد القانون رقم 141 لسنة 1955 بإنشاء لجنة التخطيط القومى، والذى تنص مادته الثانية على ما يلى:
«تتولى اللجنة وضع خطة قومية شاملة للنهوض الاقتصادى والاجتماعى فى الدولة تنفذ فى آنٍ واحد على أن تتضمن الخطة أهدافًا رئيسية وتوجه نحو الوصول إليها جميع الجهود القومية من حكومية وغير حكومية وذلك فى برامج ومشروعات تنموية مدروسة». وقد تم اعتماد القانون بواسطة رئيس مجلس الوزراء بكباشى (أ.ح) جمال عبدالناصر حسين، وصدر بالوقائع المصرية فى 10 مارس 1955.
ويجسد لنا أستاذنا الجليل د. محمد محمود الإمام من خلال سلسلة مقالاته الشُجَاعَة والمُبْدِعَة على صفحات جريدة الشروق، من عام 2009 وحتى وفاته عام 2016 وهو فى الثانية والتسعين من العمر، فى سياق تقييمه لتجربة الستينيات وكواليس الأجهزة التخطيطية فى مصر ــ نموذجًا للنقد الرصين «من الداخل». فهو بموقعه فى قلب تجربة التخطيط المصرية فى الستينيات عضوا فى لجنة التخطيط القومى ووكيلا للجهاز المركزى للمحاسبات وأستاذًا بمعهد التخطيط القومى (ثم مديرًا للمعهد عام 1966 ووزيرًا للتخطيط عام 1976) وبانتمائه الفكرى والوجدانى إلى المشروع الناصرى، يستطيع أن «يَنْقُدْ» دون أن «يهدم». وهو يرى بوضوح أن تقاعس القطاع الخاص عن الإسهام فى الفرص التى استحدثتها الخطة الخمسية الأولى أدى إلى إدراك صانعى القرار لأهمية تحمل القطاع العام عبئًا أكبر مما كان مقدرًا من أجل إنشاء «المجتمع الجديد» الذى يضمن زيادة الإنتاج ويكفل فى الوقت نفسه عدالة التوزيع. كما يلحظ د. الإمام بنظرته الثاقبة سيطرة المنظور الاقتصادى «الخالص» ومنهج «التخطيط التسييرى» الخاضع لتوجيهات القيادة السياسية الذى تبناه البعض من الاقتصاديين الزراعيين (أمثال د. أحمد محمود الشافعى ود. سيد جاب الله ود. أحمد محمود المرشدى من الرعيل الأول من المخططين المصريين، ثم د. كمال الجنزورى فى مراحل تالية)، على عملية إعداد الخطة الخمسية الأولى. وذلك فى مواجهة منظور الاقتصاد السياسى ومنهج «التخطيط الهيكلى» المغاير الذى تبناه الاقتصاديون والمخططون من أصحاب التوجهات الاشتراكية (أمثال د.إبراهيم سعد الدين، د. ألفونس عزيز ود. رمزى زكى ود. على نصار ود. ابراهيم العيسوى) فى سعيهم الاستراتيجى لإنجاز «التغيير الهيكلى» الذى يتضمن فى وضعٍ «مثالى» إقامة دولة ذات إرادة سياسية مستقلة مكتملة الأنساق السياسية والأمنية والتشريعية والقضائية وتمتلك القدرة على حماية استقلالها، بينما تستخدم أدواتها للتخطيط الهيكلى فى رفع قدراتها الاقتصادية وتطوير وسائل الاعتماد على النفس وتحقيق التكافؤ فى المعاملات الدولية. وذلك مع عملها الدءوب على إزالة الظلم الاجتماعى والخلل الطبقى، وبناء شخصية المواطن المعتز بكرامته والقادر على المشاركة الجادة فى بناء الدولة الوطنية الحديثة والمجتمع المصرى الجديد. ويُقَدِّرْ د. الإمام من واقع معايشته لهذه الفترة «المجيدة» ــ وطنيا وتخطيطيًا ــ أن التقارير الأولية لجهاز المحاسبات عن الخطة الخمسية الأولى قد أظهرت الحاجة إلى وقفة جادة لتلافى ما يمكن أن يقود إلى تعميق الفجوة بين الغايات «المثالية» التى تبنتها ثورة يوليو والمسار الواقعى الذى كانت تنساق إليه عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فقد بادر الانتهازيون من رجال الأعمال فى قطاعات التشييد والوساطة باستغلال التسارع الذى قررته الخطة فى النشاط الاقتصادى والتزايد الكبير فى الطلب على مواد البناء، فرفعوا من أسعارها على نحوٍ أدى إلى تراجع القيمة الحقيقية للأموال التى خصصت فى الخطة للاستثمار. وبدلًا من أن ترتفع المدخرات المحلية ظلت فى حدود 14% من الدخل القومى، وذلك بسبب زيادة الاستهلاك. وهنا نلجأ إلى التأمل فى كلمات جمال عبدالناصر نفسه كما رصدها الأديب الكبير صنع الله إبراهيم فى كتابه البديع الصادر عام 2019 عن دار الثقافة الجديدة بعنوان (1970)، وهو يصف لنا صعوبات التحول الاشتراكى فى فترة الستينيات:
«إحنا فى مرحلة انتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية.. القيم القديمة ما زالت موجودة.. العلاقات القديمة الإقطاعية والرأسمالية ورواسبها.. الطبقة اللى كانت موجودة مازالت موجودة ولن تنقرض قبل عشرات السنين.. الناس بالطبيعة محافظون والملكية غريزة طبيعية فى الإنسان.. فإذا أردت أن تقوم بتغيير فى أوضاع الملكية فإنك لا تصطدم فقط بالغريزة الطبيعية لدى الذين تمسهم إجراءاتك فحسب.. وإنما تصطدم بالغريزة الطبيعية لكثيرين ليسوا الآن من كبار الملاك لكنهم يحلمون أن يصبحوا كذلك فى يومٍ من الأيام.. إن مرحلة الانتقال من مجتمع تسيطر فيه القلة إلى مجتمع تتحقق فيه عدالة التوزيع، هى أخطر المراحل فى حياة المجتمعات؛ لأن التنظيم القديم للمجتمع يكون قد تهاوى، وفى نفس الوقت لا يكون التنظيم الجديد لهذا المجتمع قد قام بعد» (ص 18).
•••
وتداهمنا ــ كما تداهم عبدالناصر ــ حرب يونيو 1967. وتأتى كلمات صنع الله إبراهيم الموجهة إلى عبدالناصر لتشرح لنا ملابسات «الفخ» الذى نُصِبَ لنا وابتلعناه: «قلت إنك لم تفكر أبدًا فى الحرب كحلٍ للصراع العربى الإسرائيلى. كان تقديرك أن التفوق الحضارى هو الكفيل بحل المشكلة، كما أن إسرائيل ليست إلَّا ذراعًا للإمبريالية الأمريكية التى تبغى السيطرة على مقدرات الشرق الأوسط وبتروله، فالمعركة إذن متواصلة مع المخططات الأمريكية. لكن إسرائيل أرادت الحرب، وحشدت قواتها على حدود سوريا وهى تعلم أنك ملتزم بالدفاع عنها. وتطورت الأمور بأدوارٍ منسقة جيدًا، وسقطنا فى الفخ الذى نُصِبَ ببراعة، وأصبح علينا الآن أن نحرر أرضنا» ( رواية 1970، ص 16).
ويلخص لنا د. محمد محمود الإمام فى مقالٍ بعنوان «من دروس 5 يونيو 1967» مغزى هذه الحرب فى عبارةٍ بليغة، بقوله «إنها ليست حربًا على قطعة أرض.. بل على نمطٍ متحررٍ للتنمية المستقلة». بينما يذكرنا السفير عبدالرءوف الريدى فى ختام كتابه الهام «رحلة العمر: مصر وأمريكا.. معارك الحرب والسلام» (الطبعة الأولى، يناير 2011، ص 551) أن مفهوم «الأمن القومى» لم يعد مقتصرًا على الجانب الأمنى أو العسكرى، بل هو مفهوم واسع يشمل مختلف العناصر التى تتصل بحياة المجتمع وأمنه الإنسانى وقدرته على البقاء. وهو يؤكد على أهمية ضم كل المؤسسات العلمية والتعليمية والتخطيطية التى تتعامل مع القضايا الحيوية الأساسية مثل الغذاء والماء والطاقة، إلى جانب المؤسسات العسكرية والأمنية والدبلوماسية التى تهتم بالدفاع عن الأمن القومى المصرى أثناء وضع استراتيجيات المستقبل. ويرى كاتب هذا المقال أن «تجربة التخطيط المصرية» التى أوقفتها حرب يونيو 1967 عنوةً، تستحق منَّا ــ إنصافًا ــ أن نضيف إلى مقومات الأمن القومى المصرى الذى ندافع عنه جميعًا، «التخطيط» من أجل نمطٍ متحررٍ للتنمية المستقلة المستدامة.

باحث بمعهد التخطيط القومى (سابقًا)

نبيل مرقس باحث بمعهد التخطيط القومي (سابقاً)
التعليقات