استراتيجية الأمن القومى الأمريكية الجديدة.. إعادة هندسة الدور العالمى وصياغة حدود الهيمنة الممكنة - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الجمعة 12 ديسمبر 2025 8:08 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما تقييمك لمجموعة المنتخب المصري في كأس العالم برفقة بلجيكا وإيران ونيوزيلندا؟

استراتيجية الأمن القومى الأمريكية الجديدة.. إعادة هندسة الدور العالمى وصياغة حدود الهيمنة الممكنة

نشر فى : الجمعة 12 ديسمبر 2025 - 6:15 م | آخر تحديث : الجمعة 12 ديسمبر 2025 - 6:15 م


تأتى استراتيجية الأمن القومى الأمريكية التى أعلنت فى ديسمبر 2025 كلحظة مفصلية تكشف عن تحوّل عميق فى فهم الولايات المتحدة لدورها فى العالم. فهى لا تكتفى بإعادة ترتيب الأولويات أو تعديل بعض الأهداف، بل تمثل إعادة هندسة شاملة لمنطق القوة الأمريكية وحدود انخراطها فى الساحات المختلفة. وكأن واشنطن تقول للعالم إن زمن التوسع غير المشروط قد انتهى، وإنها باتت تسعى لهيمنة أكثر تركيزًا، تُبنى على الحساب العقلانى للمصالح، لا على التزامات أيديولوجية أو مشاريع تدخلية مفتوحة.
فى قلب الوثيقة يظهر إدراك واضح بأن الولايات المتحدة، على الرغم من احتفاظها بموارد القوة الأكبر فى النظام الدولى، لم تعد راغبة فى تحمل أعباء الدور الواسع الذى اضطلعت به منذ نهاية الحرب الباردة. ولذا تسعى اليوم إلى تكريس نموذج جديد لهيمنتها، يعتمد على إعادة بناء أسس القوة داخليًا، وترتيب مناطق النفوذ على نحو يقلّص الكلفة ويزيد الفاعلية. هذه ليست دعوة إلى الانسحاب من العالم، بل إلى إدارة العالم بشروط جديدة، تقوم على المفاضلة بين الضرورى والممكن، بين ما يخدم القوة الأمريكية وما يستنزفها.
• • •
تمثل الصين العنوان الأكثر أهمية فى هذه الهندسة الجديدة. فالتنافس بين القوتين العظميين لم يعد مقصورًا على المجال الأمنى أو العسكرى، بل هو تنافس ممتد عبر الاقتصاد، التكنولوجيا، سلاسل التوريد، النفوذ السياسى، والبنية التحتية العابرة للقارات. ترى واشنطن أن الصين هى المنافس الوحيد القادر على تحدى مكانتها العالمية خلال العقدين المقبلين، ولذلك تُعاد صياغة كل سياسة أمريكية ـــــــ من آسيا إلى الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية ـــــ عبر منظور احتواء نفوذ بكين أو الحد من قدراته.
لكن الاستراتيجية لا تتعامل مع الصين باعتبارها خطرا عسكريا وشيكا، بل باعتبارها قوة تزحف ببطء عبر أدوات اقتصادية ذكية، واستثمارات ضخمة، وربط بنيوى للدول عبر القروض، والتجارة، والموانئ، والبنى التحتية. ومن هنا تحاول واشنطن فى وثيقتها الجديدة أن تتحرك فى «الساحات الرمادية» التى تتنافس فيها القوى المتوسطة والهياكل الاقتصادية، أكثر مما تتحرك فى ساحات الصراع العسكرى المباشر. هذه مقاربة مختلفة تعترف بأن معركة القرن الحادى والعشرين لن تُحسم بالدبابات والطائرات، بل بمسارات الابتكار، والقدرة الصناعية، والشبكات المالية، والتحالفات الاقتصادية.
• • •
وإذا كانت الصين هى التحدى الأكبر، فإن أوروبا هى الصداع الأكثر حساسية بالنسبة لواشنطن. فالعلاقة مع القارة القديمة لم تعد محكومة بمنطق التحالف القديم بين الديمقراطيات الليبرالية، بل باتت مشروطة بمدى قدرة الأوروبيين على تحمّل مسئولية أمنهم واستقرارهم. ترسل الاستراتيجية رسالة واضحة مفادها أن واشنطن لن تعود الممول الأول لأمن القارة، وأن على دول أوروبا أن تستثمر أكثر فى دفاعها، وأن تعيد بناء صناعاتها الدفاعية، وأن تتوقف عن التعامل مع المظلة الأمريكية بوصفها ضمانة مجانية ودائمة.
هذا التحول يعكس قناعة فى واشنطن بأن أوروبا تمر بأزمة بنيوية مرتبطة بالهوية، والهجرة، وصراعات السياسة الداخلية، وتراجع القدرة على المبادرة الدولية. ولذلك جاءت لغة الوثيقة حازمة، وأقرب إلى مساءلة الحليف منها إلى الاطمئنان إليه. فالولايات المتحدة لا تريد الخروج من أوروبا، لكنها لم تعد ترى نفسها مسئولة عن تسيير القارة أو حمايتها فى كل الظروف. والنتيجة هى إعادة تعريف الشراكة عبر مبدأ بسيط: التحالف يجب أن يكون مفيدًا للطرفين، وليس التزامًا أعمى من طرف واحد.
• • •
أما فى النصف الغربى من العالم، وتحديدًا فى أمريكا اللاتينية والكاريبى، فتسعى واشنطن إلى استعادة موقعها التقليدى بصفتها صاحب الهيمنة الفعلية فى المنطقة. لم يعد الأمر يتعلق فقط بالأمن، بل أيضًا بمنع القوى الأخرى ـــــ وعلى رأسها الصين ــــــ من ترسيخ وجود اقتصادى أو استعمار بنيوى للسوق والبنية التحتية. لذلك تطرح الاستراتيجية مسارات استثمار جديدة، وتعاونًا أمنيًا موسعًا، وربطًا مؤسسيًا عبر سلاسل التوريد القريبة، لتقليل الاعتماد على الأسواق البعيدة وضمان الأمن الاقتصادى.
ترى واشنطن أن الحفاظ على الهيمنة فى هذا النطاق الجغرافى ليس رفاهية، بل ضرورة استراتيجية تمنع المنافسين من الاقتراب من حدودها السياسية والاقتصادية. فالتنافس مع الصين لم يعد محصورًا فى بحر الصين الجنوبي، بل يمتد إلى موانئ تشيلى، وشبكات الاتصالات فى البرازيل، ومشاريع التعدين والطاقة فى بوليفيا والأرجنتين. لذلك تطرح واشنطن نفسها شريكا «أفضل» لدول المنطقة، لكن بشروط تضمن إعادة تدوير القوة والنفوذ لصالحها على المدى الطويل.
• • •
وفى الشرق الأوسط، تعكس الاستراتيجية تحوّلا هادئا ولكن عميقا. فالولايات المتحدة لا تنسحب من المنطقة، لكنها تقلل من مستوى تورطها العسكرى، وتحدد بدقة المجالات التى تستحق الاستثمار. تراجعت أهمية النفط بالنسبة للاقتصاد الأمريكى، وتراجعت معها الحاجة إلى التواجد العسكرى الكثيف. لكن المنطقة ما تزال تحتفظ بأهمية استراتيجية: أمن إسرائيل، منع توسع النفوذ الإيرانى، الحفاظ على طرق الملاحة، وضمان الحد الأدنى من الاستقرار الذى يمنع انزلاق المنطقة فى فوضى تهدد المصالح العالمية.
لذلك تتجه واشنطن نحو شراكات أكثر براجماتية، مع اعتماد أقل على المشاريع الكبرى لإعادة تشكيل الشرق الأوسط. لا تغيير أنظمة، ولا هندسة ديمقراطية، ولا تدخلات عسكرية واسعة؛ بل إدارة مصالح، وتنسيق مع القوى الإقليمية الكبرى، وتعزيز مسارات التطبيع، وتسهيل ترتيبات اقتصادية وأمنية بين الدول التى تمتلك وزنًا فى الإقليم. بهذه المقاربة تسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على نفوذها بأقل تكلفة ممكنة، وبأعلى قدر من الاستفادة الملموسة.
تسعى الاستراتيجية أيضًا إلى تجنب الانخراط فى صراعات جديدة فى الشرق الأوسط يمكن أن تستنزف القوة الأمريكية فى لحظة إعادة بناء للداخل. ولذلك تبدو واشنطن أكثر ميلًا إلى توزيع الأعباء بين الحلفاء الإقليميين، وتشجيع ترتيبات أمنية محلية، وتوظيف أدوات دبلوماسية واقتصادية بدل من العمليات العسكرية المباشرة. هذه ليست سياسة انسحاب، بل سياسة ترشيد وانضباط فى إدارة النفوذ.
عند قراءة الصورة الكاملة، يتضح أن الاستراتيجية تعكس رغبة أمريكية جادة فى إعادة توجيه موارد الدولة نحو الداخل. فالمنافسة التكنولوجية والصناعية مع الصين تتطلب إعادة بناء قاعدة الإنتاج، وتعزيز البحث العلمى، وحماية براءات الاختراع، وأمن سلاسل التوريد، وتأمين الموارد الحيوية. كما تتطلب مواجهة التحديات الداخلية ـــــ من الاستقطاب السياسى إلى البنية التحتية المتقادمة ـــــ اهتمامًا أكبر مما كان متاحًا فى زمن التوسع الخارجى. وبالتالي، فإن إعادة صياغة الدور الأمريكى فى العالم ليست هروبًا من المسئولية، بل محاولة لتجديد إمكانية الهيمنة نفسها. فالولايات المتحدة لا تستطيع أن تمارس نفوذًا عالميًا واسعًا إذا كانت بنيتها الداخلية ضعيفة أو متصدعة. ولذلك تبدو الوثيقة وكأنها توازن بين طموح عالمى وإصلاح داخلي، بين الاستمرار فى لعب دور القوة المهيمنة وبين إدراك حدود القدرة الفعلية على ممارسة هذا الدور.
• • •
فى المحصلة، تحمل استراتيجية الأمن القومى الأمريكية لعام 2025 رسالة مزدوجة:
أولًا: أن واشنطن ما تزال ترى نفسها القوة الأساسية فى النظام الدولى، لكنها تريد أن تمارس هذه المكانة بذكاء استراتيجى، لا عبر الانتشار المفرط.
وثانيًا: أن مستقبل الدور الأمريكى لن يُقاس بمدى انتشار قواتها حول العالم، بل بقدرتها على قيادة التحولات الاقتصادية والتكنولوجية، وبمدى نجاحها فى بناء شبكات نفوذ مستدامة، لا حملات تدخلية قصيرة العمر.
إنها لحظة تعيد فيها الولايات المتحدة تقييم ذاتها، وتكتب صيغة جديدة لهيمنتها، صيغة أقل ضجيجًا وأكثر حسابًا، وأكثر تعبيرا عن واقع عالم متعدد الأقطاب، يبحث فيه الجميع عن توازن بين القوة والمصلحة، بين الطموح والحدود، وبين النفوذ والمسئولية.

أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج الشرق الأوسط فى مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى

عمرو حمزاوي أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي
التعليقات