إنهم يحبون الأونلاين - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 1:35 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إنهم يحبون الأونلاين

نشر فى : الخميس 13 يناير 2022 - 9:30 م | آخر تحديث : الخميس 13 يناير 2022 - 9:30 م

طلاب هذه الأيام يفضّلون أداء الامتحانات عن طريق الأونلاين، ومع أن هذه القاعدة تنطبق على الطلاب في المراحل الدراسية المختلفة، إلا إنني أركّز على طلاب الجامعة بالذات لأن هذا هو المحيط الذي أحتّك به بشكل مباشر بحكم طبيعة عملي. هم يفضلّون الامتحانات الأونلاين لأنها تأتي على شكل أسئلة يجيبون عليها بعلامة صح وخطأ، أو يختارون إجابة واحدة من بين عدة إجابات تُطرَح عليهم، وهذا الأسلوب في التقييم ربما يناسب الكليات العملية والهندسية لكنه لا يناسب الكليات النظرية حيث يكون الاختلاف بين المهارات الفردية في المقارنة والتحليل وربط المقدمات بالنتائج هو ما يميّز بين مستويات تحصيل الطلاب. أما تصميم الامتحان الأونلاين في شكل أسئلة مقالية تبرز الاختلافات الفردية بين الممتحَنين فإنه أمر وارد لكن تعقيداته التقنية كثيرة وجوهرها احتمال إسقاط "السيستم"، وعبارة "السيستم واقع" هذه هي عبارة نسمعها في مختلف المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، فما بالنا بتعقيدات الأسئلة المقالية حين تكون أونلاين؟ بالمناسبة هل ننصب مفردة أونلاين في السؤال السابق؟ لم أفكر في ذلك من قبل.

• • •

يعلم الطلاب أن الإجابة بصح وخطأ أو التي تطلب منهم الاختيار بين عدة بدائل، ربما توقع بهم في مآزق كثيرة فالأستاذ يستطيع أن يلتقط بعض التفاصيل المتناثرة في ثنايا المقرر ليسأل فيها، ويستطيع أن يجعل البدائل متقاربة جدًا بحيث يصعب الاختيار من بينها إلا على طالب فاهم. يعلمون ذلك إذن لكنهم مازالوا يفضلون هذا الشكل للامتحان لأنهم يتصورون أنه يقلل من المعلومات التي عليهم استيعابها، مع أن العكس هو الصحيح تمامًا، فالأسئلة المقالية تتناول العموميات أما أسئلة الصح والخطأ والاختيار بين البدائل فإنها تركَز على التفاصيل. ثم أن الطلاب يُقبِلون على الامتحانات الأونلاين إن هي تمت في الكلية لأن من السهل أن "يتعاون" في إجابتها الطلاب، إذ تكفي هزّة رأس لأسفل للإجابة بنعم وهزّة رأس في اتجاه اليمين واليسار للإجابة بلا، أما "التعاون" في إجابة الأسئلة المقالية فهذا أمر يحتاج إلى استعدادات وإجراءات خاصة. مازلت أذكر وأنا طالبة في الجامعة زميلًا لي كان يجلس ورائي أثناء الامتحان بحكم الترتيب الهجائي لأسماء الطلاب. كانت امتحاناتنا تُعقَد في خيام خارج الكلية وكنّا نؤديها مرة واحدة في نهاية العام الدراسي مما يجعل المقرّر طويلًا طويلًا، ورغم حرارة الجو في شهر مايو إلا إننا لم نكن نشكو منه، كنّا نتأقلم مع الموجود ونتكيّف مع المتاح. في أول عهده بالتعرّف علىّ في السنة الثانية طلب مني زميلي أن أعاونه في الامتحان مقابل دعوة مع خطيبي لوجبة كباب شهية في المطعم الذي يمتلكه والده. كان قد تكرر رسوب زميلي هذا عدة مرات، وبالتالي كان مظهره الخارجي مهيبًا.. أكبر منا سنًا ضخم الجثة وذو شارب كث. وعندما عرض عليّ صفقته: التعاون معه في مقابل وجبة كباب أُسقِط في يدي، فلم أكن أعرف كيف أعاونه بالضبط وبأي طريقة، وبعد ارتباك لم يطل تركت الأمر معلّقًا قائلة: هذا إن أنهيت الإجابة بدري، وفي الواقع فإنني لم أنهِ أيًا من امتحاناتي بدري كعادة كل الشطّار، وبناءً عليه لم أستمتع قط مع خطيبي بوجبة الكباب الشهية إياها، وتخرّجت مع دفعتي وبقى زميلي للإعادة. قصارى القول إن "التعاون" في إجابة الأسئلة المقالية أمره صعب، كان هذا هو الحال أيام زمان ولم يزل حتى الآن رغم التطور الإلكتروني الكبير في وسائل الاتصال. أما إن تمت الامتحانات الأونلاين في المنزل وهذا حدث من قبل ويحدث للآن، فإنه لن يكون هناك مراقبون ولا كاميرات مفتوحة لمتابعة الطلاب خوفًا من أن يقع السيستم، وهكذا يكون الأمر أشبه بمباراة لكرة القدم يسجّل فيها اللاعب هدف الفوز المؤكّد في غياب حارس المرمى والحَكَم، وهذا هو غاية المراد من رب العباد، ويستطيع الطلاب إن أرادوا أن يجتمعوا معًا، كلٌ منهم له جهاز الكومبيوتر الخاص به و"يتعاون" الجميع على فعل الخير!

• • •

وبسبب مزايا الامتحان الأونلاين بشكل عام وعند إجرائه في المنزل بشكل خاص يستميت الطلاب في الإلحاح عليه. يقولون لك: عامان ونحن نمتحن بهذه الطريقة واعتدنا عليها! لكن ماذا عما قبل العامين؟ يبدو هذان العامان الاستثنائيان وكأنهما جاءا ليلغيان تاريخًا ممتدًا من خلفهما، ولو استمر الوضع على هذا النحو فنحن معرَضون لتخريج أجيال لا تستطيع أن تكتب أو تبدع أو تتذوق جماليات النص، فالإجابات السريعة كالوجبات السريعة لذيذة لكنها مضّرة. ويقولون لك: هذا هو الاتجاه العالمي، وينظرون لنا ونحن ندافع عن الامتحانات الورقية كما ينظر قرّاء الصحف إلكترونيًا لقرّائها ورقيًا. لكن حتى لو كانوا محقين في هذه النقطة، وأنا أشك في ذلك لأنه لا التعليم ولا التقييم تحوّل عالميًا بالكامل إلى أونلاين، ومع ذلك أيضًا فإن السيستم مختلف، والسيستم هنا ليس بمعنى البنية الإلكترونية التحتية فقط وهو الجانب الأسهل، لكن بمعنى الثقافة العامة للمجتمع والنظرة العامة للعملية التعليمية وهذا هو الجانب الأصعب. ينظرون في الخارج للتعليم كقيمة مضافة ونحن ننظر له كشهادة لا أكثر ولا أقل، وهم يجعلون الامتحان في خدمة التعليم ونحن نجعل التعليم في خدمة الامتحان، وهم ينطلقون من العلاقة التكاملية بين الأستاذ والطلاب ونحن ننطلق من كون العلاقة هي بين قط وفأر يتذاكى فيها كل طرف ويناور ويمارس الفهلوة. أما إن أعيا الطلاب إقناعنا بالامتحانات الأونلاين لكل الأسباب السابقة لا يكون هناك بد من النزول بالچوكر الذي يضع حدًا لأي نقاش، الاشتباه في إصابتهم بكورونا. ولأن إثبات الإصابة من عدمه يحتاج إلى اختبار والاختبار مكلّف، بالتالي فلا مفر من التصديق. تعلّمنا زمان ألا نتمارض لأن الصحة نعمة نحمد الله عليها ليل نهار، وغير متأكدة من أن هذا المعنى مازال واصلًا للجميع حتى الآن.

• • •

يحب الطلاب الأونلاين حبًا جمًا، يحبون الشاشة والكي بورد والماوس والأسئلة الكبسولية، ويحاولون تطويع الواقع الفعلي للمجال الافتراضي وإخضاع الوضع الطبيعي للظروف الاستثنائية، وسنبقى نحن المشتغلين بالتعليم ندافع عن الإنسان والتواصل المباشر والعلاقة مع الطلاب، ونقاوم ترتيب حياتنا على مقتضيات مواجهة وباء عمره قصير مهما طال.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات