آخر بيوت الياسمين - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 1:34 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

آخر بيوت الياسمين

نشر فى : الأحد 13 نوفمبر 2016 - 12:10 ص | آخر تحديث : الأحد 13 نوفمبر 2016 - 12:10 ص

كان لى صديق وزميل يقترح دوما موضوعات صحفية حول الغيط الأخير فى منطقة أراض زراعية زحف عليها العمران أو الفيللا الأخيرة وسط حى تحول إلى غابة من الأسمنت، ويظل يبحث لأيام وأيام عن الحالة ــ النموذج التى تسمح له برصد التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التى أدت إلى واقع أننا نتعامل مع آخر معالم عصر ينتهى أو مضى بالفعل. وغالبا كان هذا هو الهاجس الأساسى لديه بصفته دارسا للتاريخ ومهتما به. لم يغرق فى النوستالجيا مثل الكثيرين، بل فى معظم الأحيان كان يرصد ويحلل فقط. تذكرته وأنا أنظر لآخر فيللات شارعى، هى بالفعل الأخيرة بعدما تم هدم البيت القديم المجاور لها، لكن غلبنى الحنين لرائحة الياسمين التى كانت تفوح من أسوار الفيللات والبنايات الصغيرة المكونة من ثلاثة طوابق. كنا نشمها عندما نستيقظ أو نترجل ليلا، بعدها ننصت إلى صوت كروان جاء مبشرا أو يمامة وقفت على النافذة تردد «اذكروا ربكم»، فنتفاءل خيرا ونبتسم. كان هذا هو حال العديد من شوارع القاهرة الجانبية التى اقتصرت على قاطنيها، لكن مع هدم الفيللات واحدة تلو الأخرى وزيادة الكثافة السكانية وتغير نمط الملاك والمسـتأجرين تبدلت الأصوات والروائح وطبيعة البشر.

رائحة التراب غزت الأنوف، والغبار تسلل إلى الشرفات، وصوت آلات الهدم وإزالة الأنقاض صارت هى ما ننام ونصحى عليه. الكلمة الأولى والأخيرة هى لسائقى وعمال الجرارات والمقطورات والجرافات والشفرات وكرة الهدم الفولاذية ومدقة الخوازيق. وأضع ثلاثة خطوط تحت هذه الأخيرة، لأنها على ما يبدو هى عنوان المرحلة.

***
رموز الهدم والبناء تتوالى فى حياتنا. ناس ترحل دون رجعة، ويجىء آخرون مكانهم، لا يشبهونهم البتة وكأنهم من بلدة غريبة وبعيدة. وعادة بالسؤال نكتشف أن السكان الأصليين للحى أو للمدينة باعوا بيوتهم لامتلاك شقق أو فيللات جديدة فى أحد «الكومباوندات» على أطراف العاصمة، حيث من المفترض وجود الماء والخضرة والوجه الحسن، إضافة إلى النظام والهدوء، فى الصحراء، خلف الأسوار. أربط بين الاقتصاد والجغرافيا، تحديدا بين النيوليبرالية والعمران، إذ يتجسد انسحاب الدولة بشكل واضح وتزايد الاعتماد على القطاع الخاص داخل هذه المجتمعات المسورة، المغلقة على أهلها، فالقطاع العقارى هو نموذج جيد لفهم العلاقة الملتبسة بين الدولة ورجال الأعمال، فى ظل تداخل أدوار القطاعين العام والخاص، منذ تسعينيات القرن الماضى وتنفيذ مصر لخطة الاصلاح الاقتصادى التى فرضها صندوق النقد الدولى حينها. الكومباوند كان رمزا لهذا التحول الشكلى نحو الاقتصاد الحر الذى لم يترجم إلى تغيرات مؤسسية مستدامة. ويظل رمزا لدولة لم تعد تسعى لإثبات أنها قادرة على توفير السكن لمختلف مواطنيها من خلال إنشاء مدن جديدة فى الصحارى، على غرار الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، بل دولة صارت تستهدف طبقة معينة تنعم بقدرة شرائية لا بأس بها وتترك للأفراد وللمجموعات الاستثمارية مساحة لتنظيم نفسها بنفسها داخل مساحات محددة، بدرجة غير مسبوقة من الاستقلالية: مشروعات كبرى مسورة، لديها أمنها الخاص ومدارسها، وعمال نظافتها وصيانة الشوارع، دون تدخل حكومى، وإن كانت الدولة تتدخل لتحديد من توكل لهم هذه المشروعات من شركات ومطورين عقاريين وخلافه.

***
على كل الطرق والجسور تطاردنا اللافتات الخاصة بهذا المشروع أو ذاك الكومباوند. وأنت تقود سيارتك تتسلم رسالة أو أكثر على المحمول للإعلان عن شقق وفيللات فى مدينة جديدة مثل السادس من أكتوبر التى ظلت طويلا مرتعا للأشباح قبل أن تصبح منذ بداية الألفية الثانية ملاذا آمنا للعديد من السكان الذين هربوا من ضوضاء القاهرة وقرروا أن يعيشوا بمعزل عنها، فى انزواء داخل الكومباوند، حتى لو كلفهم ذلك الكثير. هم ينظمون حياتهم بمعزل عن الآخرين وليس بالتوازى كما كان مخططا للمدن الجديدة فى سالف العصر والأوان، مع الأخذ فى الاعتبار أن هذه التجمعات السكانية الخاصة استفادت من البنية الأساسية التى وفرتها الدولة عندما أنشأت المدن الجديدة، واستوطنت وامتدت وتوسعت. تحيط بفيللاتها ومبانيها العديد من المساحات الخضراء، لكنها لا تشبه بيوت الياسمين التى تهدم فى الأحياء القديمة، هى ترجمة لروح عصر مختلف باقتصاده وأغنيائه ورجال أعماله وأشجاره وطابعه المعمارى الملتبس كخليط العولمة.

التعليقات