بل يهزم الاقتصاد السياسة فى كل مرة - مدحت نافع - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 9:56 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بل يهزم الاقتصاد السياسة فى كل مرة

نشر فى : الإثنين 14 يناير 2019 - 8:50 م | آخر تحديث : الإثنين 14 يناير 2019 - 8:50 م

فى مقال بالأهرام بعنوان «هل السياسة هزمت الاقتصاد؟» تناول الدكتور محمد كمال مسألة دقيقة تشغل أذهان العالم منذ عقود، تضع السياسة بتعقيداتها وحساباتها المتداخلة فى مواجهة مع الاقتصاد كمحرك حقيقى للأحداث الكبرى، وفاعل أساسى فى تشكيل معادلة السيطرة فى المجتمع الدولى، فضلا عن مجتمع الأفراد.
المقال ينتصر للسياسة على الاقتصاد، يضرب فى سبيل ذلك الأمثال بأحدث التطورات التى يرى الكاتب أنها مالت بمعادلة القوى تجاه ما أطلق عليه «منطق السياسة» عوضا عن «منطق الاقتصاد». فمثلا كان تصويت غالبية البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبى متعارضا ــ فى رأى الكاتب ــ مع المنطق الاقتصادى الرشيد، ويعكس حرص مجتمع المصوتين على السيادة البريطانية التى يمسها تغول الاتحاد الأوروبى على القرار المستقل لبريطانيا. وفى رأيه أيضا أن تصويت غالبية المواطنين الأمريكيين للحزب الديمقراطى فى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس التى جرت فى نوفمبر الماضى، رغم ما حققه «ترامب» من مستويات نمو وفرص عمل وصفها المقال بأنها غير مسبوقة خلال العامين الماضيين، وكذلك خروج الفرنسيين فى مظاهرات ضخمة ضد سياسات الرئيس «ماكرون»، وأيضا خسارة حزب «بهاراتيا جاناتا» الحاكم فى الهند العديد من المقاعد فى انتخابات فرعية للبرلمان، رغم أنه حزب رئيس الوزراء «ناريندرا مودى» المتبنى لإجراءات إصلاح اقتصادى ناجحة فى الهند.. كل ذلك يراه تجليات داعمة لوجهة نظره الدالة على هزيمة السياسة للاقتصاد.
***
واقعيا فقد كان اختيار الكاتب لتلك الأمثلة لدعم استنتاجاته بمثابة معين لى فى إثبات عكس ما استخلصه تماما!، وتأكيد سيادة منطق الاقتصاد وانتصاره على ما سواه فى كل مرة، رغم محاولات التيارات الشعبوية الزاحفة استمالة المواطنين بشعارات وانتصارات سياسية زائفة فى مواجهات كثيرة حول العالم.
فيما يتعلق بالتصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، فلم يكن البريطانيون أكثر حرصا على مصالحهم ومكتسباتهم الاقتصادية المباشرة من اختيار غالبيتهم التصويت بالخروج. بل إن تعثر الخروج الآن لعدم قدرة رئيسة الوزراء «تريزا ماى» التوصل إلى اتفاق يقبله البرلمان الإنجليزى، هو أيضا من تداعيات الفاتورة الباهظة التى سوف يتحملها «الاقتصاد» البريطانى عند الخروج باتفاق مجحف أو بغير اتفاق على الإطلاق. المنافسة الضارية التى واجهتها قوى العمل فى بريطانيا من قبل العاملين المؤهلين القادمين من أوروبا الشرقية بأبخس الأجور، سبب حيوى للتصويت والردة عن تيار العولمة، الذى بات ينصف سكان الدول الأقل دخلا على حساب الدول الأغنى متى وضعهم على مضمار واحد للسباق من أجل تحصيل المعايش. التفاوت الكبير فى مستويات المعيشة والدخول بات من الصعب جبره بقوة «السياسة» والكيانات «المؤسسية» القائمة على هدى صفحات كتاب العلاقات الدولية، التى هى شعبة من العلوم السياسية. البريطانيون صوتوا تمردا على صفهم فى طابور واحد للحصول على لقمة العيش يزاحمهم فيه نحو 520 مليون مواطن من جنسيات وأعراق مختلفة، ناهيك عن زحف اللاجئين، ومخاوف العدوى الاقتصادية من دول الاتحاد المتعثرة ماليا والمرشحة للتعثر المستقبلى.
أما عن تصويت الأمريكيين فى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس فى نوفمبر الماضى، فلا أفهم كيف رآه الدكتور كمال تصويتا ضد منطق الاقتصاد الرشيد؟! بل كيف يجتمع الرشاد فى عبارة واحدة مع الرئيس «ترامب»، الذى كان انتخابه بادئ الرأى منافيا للمنطق على إطلاقه وللرشد على اختلاف مذاهبه؟!
***
تناولت فى عدد من المقالات السابقة تفنيدا للانتصارات «المالية» المحدودة التى حققتها إدارة «ترامب»، وقد توقفت سابقا عند انتصاراته فى أسواق المال، وكيف أنها فى ظل سياسته المالية الضريبية التوسعية، وسياسته التجارية الحمائية لن تكون سوى محض انتصارات وهمية، تعزز من أزمة تفاوت توزيع الثروات، وتخلق فقاعات كبيرة ناتجة عن الفجوة المتزايدة بين الاقتصادين النقدى والحقيقى. العام قبل الماضى وحده شهد نحو خمسين تغريدة من الرئيس الأمريكى فى مديح المستويات المرتفعة التى سجلتها أسواق الأوراق المالية، وأثر قيادته الجديدة للاقتصاد الأمريكى على تلك المستويات! ماذا حدث بعدها؟ كيف يرد «ترامب» على انهيار مؤشر داوجونز فى جلسة واحدة بأكثر من 1100 نقطة فى فبراير 2018؟ هل يعكس فشل رؤيته الاقتصادية، تماما كما كان الصعود الكبير للبورصة نجاحا لتلك الرؤية؟
الاقتصاد الأمريكى يشهد منذ تولى الجمهوريين السلطة حالة من الترقب والقلق، وربما ينتظر كسادا كبيرا توقعه «آلان جرينسبان» الرئيس الأسبق للفيدرالى الأمريكى. كذلك قلنا إن التحسن النسبى فى بيانات التوظيف الأمريكية ليس وليد الحكمة الرئاسية فى التعامل مع الملف الضريبى وسياسات الإصلاح المالى ومشروع التأمين الصحى! بل هو استمرار لاتجاه تعافى العديد من المؤشرات الاقتصادية بداية من عام 2010 (أى فى عهد الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما). معدلات النمو الاقتصادى أيضا تبدو أفضل نسبيا عند بلوغ 2,5% مقارنة بمعدلات ما بعد الأزمة العالمية والتى لم تتعدَ 2% لكنها أبدا لا تعكس اقتصادا أمريكيا «جديدا» على حد وصف «ترامب»، ولا تعوض الاقتصاد إلا قليلا من فرصته الضائعة لو استمرت وتيرة النمو فى مسارها الطبيعى من بعد عام 2007، وهو المسار الذى قطعته أزمة الرهن العقارى عام 2008. لكن اصطدام التفاؤل الرئاسى الساذج بواقع تراجع إنتاجية العامل الأمريكى، وتزايد البطالة الهيكلية، وضع سقفا لما يمكن أن تؤدى إليه السياسات الاقتصادية المالية والنقدية والتجارية من حفز للصناعة وزيادة فى الإنتاج. الأمريكيون باتوا يخشون على دولتهم من الانهيار التام، من تداعى الغلق الجزئى للحكومة، وحروب التجارة، وحرب الجدار مع المكسيك، وفوضى استقالات المحيطين بالرئيس الأمريكى، وتقويض دعائم الحلم الأمريكى بزعم حماية الاقتصاد!.
***
أما عن الفرنسيين فصحيح أن اختيارهم لماكرون كان مشفوعا بآمال اقتصادية مشرقة، لكن صحيح أيضا أن حركة السترات الصفراء التى انطلقت ضده لا تعدو أن تكون صرخة شعبية عفوية ضد سياسة اقتصادية انحازت للأغنياء، وتحدت الأسس الاشتراكية للاقتصاد الفرنسى. بل إن اسم الحركة نفسه قد استلهم أحداث رواية فرنسية صدرت حديثا، تتناول فى بعض أحداثها قانونا جديدا يلزم قادة المركبات بشراء سترات صفراء تساعد على رؤيتهم تحسبا لتعطل المركبة فى الطريق.. علما بأن قطاعا واسعا من الفرنسيين تحمله لقمة العيش على السفر بسياراتهم إلى المناطق التى كان لها نصيب من التطور الخدمى على حساب قطاعات الاقتصاد التقليدية الزراعية والصناعية. ومن المعروف أن أبرز الأسباب المباشرة للاحتجاجات الفرنسية الأخيرة كان الاعتراض على ارتفاع أسعار الديزل، (الوقود الأكثر استعمالا فى السيارات الفرنسية) بنسبة تقارب 23% على مدى العام السابق على التظاهرات، حيث بلغ سعر اللتر 1.51 يورو، وهو أعلى سعر يصله منذ عام 2000.
***
أما عن خسارة حزب «بهاراتيا جاناتا» الحاكم فى الهند السلطة فى ثلاث ولايات رئيسة هى «راجاستان» و«تشاتيس غره» و«مادهيا براديش»... فهى بدورها تجسيد لانتصار الاقتصاد على السياسة فى الانتخابات. فالخسارة هى مؤشر على غضب الفلاحين (الكتلة التصويتية الأهم فى تلك الولايات)، وذلك بسبب تفاقم أزمة البطالة وتباطؤ القطاع الزراعى بشكل ملحوظ، إذ لم يحقق نموا سوى بنسبة 2%، بينما تواجه الحكومة الآن مطالب بإعفاءات من سداد القروض فى خضم أزمة المزارع المستعرة.
وإضافة إلى الإخفاق فى توفير عشرات الملايين من فرص العمل للشباب، وهو وعد انتخابى ساهم فى صعود الحزب بنتيجة غير مسبوقة منذ ثلاثة عقود. عجز «مودى» إذن عن الوفاء بأهم الوعود الاقتصادية لحملته الانتخابية عام 2014. ومن بين الأمور الأخرى التى أضرت أيضا بالحزب قرارات سحب العملات الكبيرة من التداول فى عام 2016، على نحو أدى إلى سحب السيولة من النظام النقدى، وتعرض كثير من القطاعات لصدمة غير محسوبة العواقب. كذلك تأثر الحزب سلبيا بالتطبيق المتعجل للضريبة الموحدة على الخدمات والسلع.
***
لا نصر إذن للسياسة فى النماذج التى استخدمها الدكتور كمال فى مقاله موضوع التحليل... بل هو الاقتصاد الذى استحوذ تاريخيا على المركز الأول فى صناعة وتشكيل مراكز القوى وأسباب الحكم، بات يهيمن على المركزين الأول والثانى، لتتأخر السياسة فى أحسن الأحوال إلى المركز الثالث إن لم تكن فى مرتبة أدنى!. ربما تواجه النظرية النيوكلاسيكية نوبة تصحيح عنيفة، أو تتطور فى الأفق نظرية جديدة تراعى التوزيع كما تراعى النمو، أو بالأحرى نظاما اقتصاديا أكثر عدلا وشمولا، تتراجع به معدلات الفقر المدقع إلى مستويات تساعد على استرداد السلام المجتمعى فى كثير من مناطق العالم المضطربة.
ربما هزم الاقتصاد الاقتصاد لدى منافسة رؤية اقتصادية لرؤية مضادة، لكن السياسة خرجت من تلك المعركة كسيرة تبحث عن مكان لها فى ممارسات شعبوية، تهدف إلى دغدغة مشاعر الجماهير، ولو على حساب ثوابت العلوم السياسية التى تعلمناها فى الجامعات.
رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات