تسييس الفيدرالي والاستقلال النقدي - مدحت نافع - بوابة الشروق
الثلاثاء 1 يوليه 2025 12:15 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من أفضل فريق عربي في دور المجموعات بمونديال الأندية؟

تسييس الفيدرالي والاستقلال النقدي

نشر فى : الإثنين 30 يونيو 2025 - 7:05 م | آخر تحديث : الإثنين 30 يونيو 2025 - 7:05 م

حين عيّن «دونالد ترامب» الخبير المالى والقانونى «جيروم باول» رئيسًا لمجلس الاحتياطى الفيدرالى عام 2018، بدا القرار متناغمًا مع توجهات الجمهوريين الساعية إلى توجيه دفة السياسة النقدية. غير أن العلاقة بين الرجلين سرعان ما انقلبت إلى صدام علنى، لاسيما بعدما أصر باول على رفع أسعار الفائدة رغم الضغوط المتكررة من ترامب، الذى لم يتردد فى مهاجمته علنًا، واصفًا إياه بـ«العنيد» و«غير الكفء» فى أكثر من مناسبة.

 


واليوم، وبعد فوز ترامب فى انتخابات الرئاسة لعام 2024 وتسلّمه ولاية ثانية، تعود الأنظار إلى ساحة المواجهة بينه وبين باول. ومع اقتراب نهاية ولاية الأخير فى عام 2026، تتصاعد التكهنات بشأن احتمال أن يسعى ترامب إلى إقالته قبل انتهاء مدته، أو أن يمتنع عن تجديد ولايته، مستغلًا هيمنة الجمهوريين على الكونجرس. الخلاف بين الرجلين لم يعد محصورًا فى توجهات السياسة النقدية، بل بات يشكّل اختبارًا حقيقيًا لاستقلالية مجلس الاحتياطى الفيدرالى، إحدى الركائز الأساسية للنظام المالى الأمريكى والعالمى.
فبينما يضغط «ترامب» لخفض أسعار الفائدة بهدف تحفيز الاقتصاد قبل الانتخابات النصفية 2026، يُصر «باول» على حياد المؤسسة، مدافعًا عن قرارات تستند إلى مؤشرات التضخم والبطالة، فى مشهد يذكّر بأزمات سبعينيات القرن الماضى، حين حاول الرئيس «نيكسون» التدخّل فى عمل الاحتياطى الفيدرالى لخدمة أجندته السياسية.
بعض أعضاء الفيدرالى ممن تم تعيينهم من قبل إدارة ترامب، بدأوا يُظهرون بدورهم ميلًا نحو التيسير النقدى (خفض الفائدة)، الأمر الذى يهدد بانقسام داخل اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة. هذا الانقسام يعكس تآكلًا تدريجيًا فى مصداقية المؤسسة، ويفتح الباب أمام ضغوط المستثمرين، وربما المشرّعين، لإعادة تعريف دور الفيدرالى وحدود تدخله فى الاقتصاد.
• • •
ويرى الاقتصادى الشهير الدكتور «محمد العريان» أن «جيروم باول» يسعى فى المرحلة الراهنة إلى تثبيت صورته المستقلة عن الضغوط السياسية، حتى وإن تطلّب ذلك الإبقاء على أسعار الفائدة المرتفعة لفترة أطول مما تستدعيه المعطيات الاقتصادية الراهنة. إلا أن «العريان» يحذّر من مغبة التمادى فى التشديد النقدى دون إعادة تقييم مرنة لهدف التضخم ، الأمر الذى قد يقود إلى خطأ استراتيجى بالغ الأثر. وفى هذا السياق، يدعو العريان، ومن ينتصر لرأيه، إلى مراجعة مستهدف التضخم التقليدى، مقترحًا رفعه من 2% إلى 3%، بما يتلاءم مع التحولات العميقة فى هيكل الاقتصاد العالمى، والتغيرات الجيوسياسية التى باتت تُلقى بثقلها على جانب العرض، وليس على جانب الطلب وحده. ويعتبر التحوّل من صدمات الطلب إلى صدمات العرض واحدا من أبرز التحوّلات الاقتصادية العالمية الكبرى فى القرن الحادى والعشرين.
كما يشدّد «العريان» على الحاجة إلى توسيع نطاق الرؤى داخل مجلس الاحتياطى الفيدرالى، واعتماد إطار أكثر مرونة فى صياغة السياسات، يستوعب تعقيدات الاقتصاد «المعولم» والتداخل المتزايد بين المسارات الاقتصادية والسياسية. ففى تقديره، لم تعد قراءة مؤشرات التضخم والبطالة كافية لصنع القرار النقدى، بل بات من الضرورى فهم الأبعاد والتداعيات السياسية لتلك القرارات، خصوصًا فى حال استخدامها لتحقيق أهداف قصيرة المدى قد تُهدد الاستقرار المالى الأوسع.
وعلى صعيد متصل، يُعرب الاقتصادى «بول كروجمان»، الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد، عن قلقه البالغ من احتمالات تسييس مجلس الاحتياطى الفيدرالى تحت إدارة ترامب الحالية. ويرى أن الخطر الأكبر لا يكمن فى قرارات نقدية بعينها، بل فى تهديد مبدأ الفصل بين السياسة والاقتصاد النقدى، وهو الحاجز الذى بُنى على مدى عقود لتحصين الاقتصاد الأمريكى من تقلبات الأهواء السياسية. انهيار هذا الجدار - فى رأيه - يفضى إلى عواقب كارثية، تُشبه ما شهدته بعض الدول التى سخّرت أدوات السياسة النقدية لخدمة السلطة لا لتحقيق الاستقرار، وكانت النتائج مدمرة للاقتصاد والاستقرار السياسى معا.
ويحذّر كروجمان من أن تآكل استقلالية الفيدرالى سيؤدى حتما إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض من خلال صعود عوائد السندات، وتراجع الثقة فى الدولار، بل وربما فتح الباب أمام مرحلة من اللايقين المالى، تتسم بتقلّب حاد فى المستوى العام للأسعار، بما يفوق فى خطورته استمرار معدلات التضخم فوق المستهدف. ويذهب إلى أن خضوع الفيدرالى لضغوط البيت الأبيض قد يُنتج نموذجًا اقتصاديًا مختلًا، يجمع بين نمو ضعيف وتضخم مرتفع، فيما يُعرف اقتصاديًا بـ«الركود التضخمى»، وهو وضع لا تجدى معه الأدوات التقليدية لإنقاذ الاقتصاد.
• • •
وبعيدا عن تقديرات الاقتصاديين، لا يزال الاحتياطى الفيدرالى يتبنى سياسة شديدة التحفّظ فى خفض أسعار الفائدة، رغم تباطؤ التضخم وتراجع ملحوظ فى الإنفاق الاستهلاكى. وقد كشفت بيانات النمو الصادرة فى يونيو 2025 عن انكماش الاقتصاد الأمريكى بنسبة 0,5% خلال الربع الأول من عام 2025، وهو ما يمثل أول تراجع فصلى منذ سنوات، ويعزز المخاوف من دخول الاقتصاد فى حالة ركود صامت لم يُعلن رسميًا بعد، لكنه ينعكس بوضوح فى مؤشرات النمو وسوق العمل.
ورغم هذه المؤشرات المقلقة، تشير معظم التقديرات إلى تأجيل أول خفض للفائدة حتى سبتمبر على الأقل، وهو ما يُبقى تكاليف الاقتراض مرتفعة، ويُضعف قدرة الشركات الصغيرة والمتوسطة على التوسع، ويزيد من الضغوط على الاستهلاك والاستثمار المحليين.
ولا تتوقف تداعيات هذا التوجه عند حدود الولايات المتحدة، إذ أصبحت أسواق المال العالمية أكثر حساسية من أى وقت مضى لتحركات الفيدرالى. فاستمرار التشديد النقدى الأمريكى يعمّق فجوة السياسات بين واشنطن وعواصم أخرى تتجه نحو التيسير، ويزيد من حدة الضغوط على الاقتصادات الناشئة المرتبطة بالدولار (اقتراضا واستيرادا)، ويعقّد جهود إعادة هيكلة الديون السيادية فى عدد من دول الجنوب.
وقد سبق أن واجه الاحتياطى الفيدرالى لحظات فارقة مشابهة، كان أبرزها خلال ولاية «بول فولكر» فى مطلع الثمانينيات، حين اتخذ قرارًا جريئًا برفع أسعار الفائدة إلى مستويات غير مسبوقة تجاوزت 20%، لمكافحة تضخم منفلت. ورغم الانتقادات العنيفة التى تلقّاها الفيدرالى آنذاك من الكونجرس ودوائر الأعمال، تمسّك «فولكر» باستقلاليته وأولويته القصوى المتمثّلة فى كبح جماح التضخم. وعلى المدى الطويل، أسّس بذلك لعقود من الاستقرار النقدى والثقة فى قدرة الفيدرالى على معالجة التشوّهات. لكن اليوم أكثر تشابكا وتعقيدا، ومصادر التضخم تتنازعها عوامل العرض والطلب واضطرابات سلاسل الإمداد وتغيّر المناخ.. إلى جانب الإنفاق العام غير المنضبط، وكلها عوامل لا يستقيم معها علاج واحد.
• • •
التحدى الراهن يتطلب مقاربة أكثر مرونة وتعقيدا، توازن بين حتمية الحفاظ على المصداقية، وضرورات الحفاظ على النمو، لا سيما فى ظل قوى سياسية تسعى إلى تدجين المؤسسات النقدية لحسابات انتخابية وأجندة «وول ستريت». إذا لم يُعالج هذا التحدى من جذوره المؤسسية، فقد نشهد تراجعًا عالميًا فى نموذج استقلالية البنوك المركزية، وتحوّلًا نحو ما سماه بعض المفكرين «اقتصاد ما بعد الحقيقة»، حيث يُعاد تعريف التضخم والنمو والفائدة حسب الحاجة لا حسب الواقع!
فى المقابل، تقدم أوروبا نموذجًا مغايرًا، لكن لا يخلو من الدروس. فالبنك المركزى الأوروبى، ورغم ما يتمتع به من استقلال رسمى، وجد نفسه فى السنوات الأخيرة تحت ضغط سياسى ناعم من حكومات تعانى من ارتفاع الدين العام وتراجع النمو، خصوصًا فى دول الجنوب كإيطاليا وإسبانيا. وعند بدء مرحلة خفض الفائدة أخيرًا، بدا واضحًا أن المركزى الأوروبى يتجه نحو تطبيع السياسة النقدية حتى قبل الفيدرالى الأمريكى، ما يعكس اختلافًا فى التقدير وليس بالضرورة فى البيانات الاقتصادية. غير أن هذا السبق الأوروبى حمل مخاطر أخرى، أبرزها اتساع الفجوة بين الدولار واليورو، وتزايد تدفّقات رءوس الأموال إلى السوق الأمريكية بحثًا عن العائد المرتفع، ما قد يخلق ضغوطًا انكماشية غير مقصودة على منطقة اليورو نفسها.
أما فى الأسواق الناشئة، فتُعدّ تركيا مثالا كاشفا، إذ تسبب التدخل المتكرر للرئيس «أردوغان» فى قرارات البنك المركزى، وإقالة أكثر من رئيس له، فى تآكل الثقة فى الليرة التركية، وتراجع الاستثمارات الأجنبية، وتضخم جامح لم تُفلح فى كبحه إجراءات اللحظة الأخيرة. اليوم، وبعد تعيين طاقم اقتصادى أكثر مهنية، تعود تركيا تدريجيًا إلى السياسة النقدية المنضبطة، لكن الثمن كان باهظًا على النمو ومستويات المعيشة والاستقرار. ويكمن الدرس هنا فى أن كلفة إضعاف استقلالية البنك المركزى لا تظهر فورًا، لكنها تتراكم فى شكل هشاشة اقتصادية مزمنة، وهو ما قد تُواجهه الولايات المتحدة نفسها إذا تكرّرت سيناريوهات تركيا بأدوات أقل سفورا، لكنها لا تقل خطرًا.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات