تفاءلوا بالعام الجديد - مدحت نافع - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 ديسمبر 2025 3:33 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

بعد تأهل المنتخب لدور الـ16.. تؤيد خوض مباراة أنجولا بـ:

تفاءلوا بالعام الجديد

نشر فى : الإثنين 29 ديسمبر 2025 - 5:40 م | آخر تحديث : الإثنين 29 ديسمبر 2025 - 5:40 م

لا فرق بين عامٍ مُدبر وآخر مُقبل إلا بما يحتضنه العام الجديد من فرص يمكن استغلالها، وما يطويه من مخاطر يتعين على المرء إدارتها. وقد تعلّمت درسًا قاسيًا من العام الماضى مفاده أن كل متوقَّعٍ آتٍ لا محالة، وأن انتظار سنة صعبة معقّدة لن يسفر إلا عن إطلالها عليك بهذا الوجه الكئيب؛ ففى عامنا الذى أوشك على الرحيل فقدتُ أمى، وقُطع وترٌ رئيس فى ذراعى، واحتملت من تعاقب الابتلاءات ما أحمد عليه ربى، ولا أحسبه مخالفًا لما انتظرته من حلول عام وصفته بالصعب قبل أن يأتى! وعلى الرغم من أن وصفى لسنة 2025 بأنها ستكون صعبة قد أُسِّس حينها على معطيات تتصل بالاقتصاد العالمى، فإن القدر يخبّئ فى جعبته من الخطوب ما لا يميّز بين عامٍ وخاص، وما عليك إلا أن تمنحه وجهًا مبتهجًا فيرقّ لك، أو أن تعبس متوقيًا صنوف الملمّات حتى يأتيك بما انتظرت.

 


وإذا كان الدعاء يغيّر المقادير، فإن الرجاء دعوة بلسان الحال، وتسليم بما قضاه العلى المتعال. فلا تبتئس، وارتقب عامًا جديدًا تخرج فيه البلاد من أزماتها الاقتصادية، ويتحسّن فيه دخل المواطن، وتتعزّز قدرته الشرائية، وتتدفّق الاستثمارات على خلفية تعافٍ ملحوظ فى مختلف مؤشرات الاقتصاد الكلى، عساها تتساقط بثمارها على مختلف السكان، ويستمر استقرار سعر صرف الدولار، وتراجع التضخم وأسعار الفائدة، وانخفاض معدلات البطالة، وتزيد تحويلات العاملين فى الخارج وعائدات السياحة وقناة السويس.. غير أن إدارة المخاطر تقتضى الاستعداد لمختلف الاحتمالات التى تدور عليها الأحداث، ما كان منها حسنًا وما كان دون ذلك، وتختلف درجة وتكلفة الاستعداد بنسبة الاحتمال والأثر المتوقع للأحداث، وترتفع الاحتمالات بالطبع كلما عزّزها التاريخ، كما يعلّمنا الماضى والمنطق الرشيد كيف تكون عاقبة الخطوب إذا وقعت على نحو ما نخشاه.
وليس التفاؤل، فى هذا المقام، إنكارًا للواقع أو قفزًا فوق حقائقه الراسخة، بل هو – كما قال «سبينوزا» – «انتقال النفس من قدرة أقل على الفعل إلى قدرة أكبر». فبين التفاؤل الساذج الذى يُغرى بالتراخى، والتشاؤم المُقعِد الذى يشلّ الإرادة، مساحة رحبة للعقل الرشيد الذى يُحسن قراءة الاتجاهات، ويُدرك أن الاقتصادات، شأنها شأن الأفراد، تمر بدورات صعود وهبوط. وقد نبّه «هيجل» مبكرًا إلى أن التاريخ لا يعيد نفسه حرفيًا، بل يتقدّم عبر جدل الأزمات وتجاوزها، وأن الوعى بهذه الحركة هو شرط الفعل فيها لا الهروب منها. فالتاريخ الاقتصادى لا يكافئ من انتظر المعجزات، بقدر ما ينصف من استعد للأسوأ وهو يأمل الأفضل.
• • •
إذا نظرنا إلى المشهد الاقتصادى العالمى، بدا واضحًا أن العالم يدخل عامه الجديد وهو مثقل بإرث من الاختلالات المتراكمة؛ غير أن هذه الصورة القاتمة لا تخلو من فرص. ولعل «نيتشه» كان أكثر الفلاسفة صراحة حين قال فى كتابه «أفول الأصنام»: «ما لا يقتلنى يجعلنى أقوى»، وهى عبارة تصلح لوصف الاقتصادات التى أعادت تشكيل نفسها تحت ضغط الأزمات. فإعادة تموضع الاستثمارات، وتسارع التحول الرقمى، والاهتمام المتزايد بالطاقة النظيفة، ليست مجرد استجابات ظرفية، بل تحولات بنيوية تفتح نوافذ جديدة أمام الدول التى تمتلك رؤية وقدرة على التكيّف، وهو جوهر الديناميكية فى المجتمعات الحيّة.
أما على الصعيد المحلى، فإن الرهان الحقيقى لا ينبغى أن ينحصر فى تحسّن المؤشرات الكلية وحدها، مهما كانت أهميتها، بل فى مدى انعكاس هذا التحسّن على حياة الناس اليومية. فالنمو الذى لا يُترجَم إلى كرامة معيشية يظل، بتعبير أرسطو، «حركة بلا غاية»، إذ كان يرى أن الغاية القصوى لأى تنظيم اجتماعى هى تحقيق الخير العام. ومن ثم، فإن التحدى الأكبر يتمثل فى تحويل الاستقرار النسبى إلى مسار مستدام، يوازن بين مقتضيات الكفاءة الاقتصادية ومطالب العدالة الاجتماعية، دون أن يطغى أحدهما على الآخر.
وتقتضى إدارة هذا التوازن إعادة النظر فى أولويات الإنفاق العام، بما يعزّز الاستثمار فى الإنسان. وقد لخّص «كانط» هذه الفكرة حين اعتبر الإنسان «غاية فى ذاته لا وسيلة»، وهو مبدأ أخلاقى يصلح ليكون قاعدة اقتصادية أيضًا. فالتعليم والصحة وبناء المهارات ليست بنودًا موازنية مصمتة، بل أصولا إنتاجية بعيدة المدى، تثبت التجربة أنها الأكثر قدرة على امتصاص الصدمات وتحويلها إلى فرص.
ولا ينفصل ذلك عن دور القطاع الخاص، الذى يُفترض أن يكون قاطرة النمو الأكثر قدرة على المنافسة وتحقيق الكفاءة فى تخصيص الموارد. غير أن هذا الدور لا يتحقق بالخطاب والنوايا، بل ببيئة أعمال مستقرة محفّزة واضحة القواعد. وقد حذّر «ماكس فيبر» من كون غياب «العقلانية المؤسسية» يحوّل النشاط الاقتصادى إلى مغامرة عشوائية، ويقوّض الثقة اللازمة للاستثمار طويل الأجل. فالمستثمر الجاد لا يخشى المخاطر بقدر ما يخشى غياب المعايير واستقرار القواعد الحاكمة لاستثماراته.
• • •
فى هذا السياق، تبرز إدارة المخاطر بوصفها ممارسة استباقية تصنع المستقبل بقدر ما تحمى منه، لا مجرد رد فعل دفاعى أمام المجهول. فالإفراط فى التحوّط، حين تحكمه هواجس الخوف من الغد، قد يقود إلى قرارات تُعجِّل بتآكل مقومات النمو عوضًا عن صيانتها، كما أن الاندفاع غير المحسوب يعرّض المكتسبات للهدر. ومن ثمّ، يقوم التخطيط الرشيد على معادلة دقيقة توازن بين الحذر الواعى والمبادرة الجريئة، وبين بناء هوامش أمان كافية، وفتح آفاق الحركة والانطلاق، بما يحفظ الاستدامة ويمنح الاقتصاد قدرة حقيقية على التكيّف مع الصدمات وتحويلها إلى فرص.
ولا يغيب عن هذا كله البعد القيمى فى إدارة الشأن العام، فالثقة هى رأس المال غير المرئى لأى اقتصاد. وقد عبّر «ديفيد هيوم» عن ذلك بقوله إن المجتمعات لا تقوم بالقوانين وحدها، بل «بعادات الثقة المتبادلة». حين يشعر المواطن بأن الأعباء موزّعة بعدالة، يصبح أكثر استعدادًا لتحمّل تكاليف الإصلاح، وحين تغيب هذه الثقة، تتلاشى فعالية السياسات مهما بلغت دقتها التقنية. ومن هنا، فإن التفاؤل بالعام الجديد ليس دعوة للانصراف عن العمل الجاد، بل حافزًا عليه. وهو أقرب، فى جوهره، إلى ما سمّاه «أنطونيو جرامشى» «تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة»: وعى كامل بصعوبة الواقع، مقرون بإصرار على تغييره. فالدعاء يغيّر المقادير، والأخذ بالأسباب يغيّر المسارات، وما بينهما يتشكّل الفعل الإنسانى المسئول.
فلنتفاءل إذن، لا لأن الطريق ممهّد بالورود، بل لأن وعورته تستدعى وضوح الرؤية وصلابة الإرادة. وكما قال «سقراط»: «الحياة غير الممتحنة لا تستحق أن تُعاش»، فإن العام الجديد لا يستحق أن يُستقبل إلا بعقل ناقد، وقلب مغلّف بالرجاء، وعملٍ دءوب يُحوّل الأمل من شعورٍ عابر إلى مشروعٍ قابل للتحقق.
كاتب ومحلل اقتصادى

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات