بين الهوية الرقمية والحق فى النسيان - مدحت نافع - بوابة الشروق
الثلاثاء 8 يوليه 2025 11:39 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من أفضل فريق عربي في دور المجموعات بمونديال الأندية؟

بين الهوية الرقمية والحق فى النسيان

نشر فى : الإثنين 7 يوليه 2025 - 8:45 م | آخر تحديث : الإثنين 7 يوليه 2025 - 8:45 م

أثار فضولى موضوعٌ طرحه أحد طلابى فى برنامج «ماجستير القانون والاقتصاد» المشترك بين كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة وجامعة هامبورج الألمانية، حيث اختار فى بحثه النهائى أن يتناول «الحق فى النسيان» بوصفه نقطة التقاء دقيقة بين القانون والاقتصاد، وبين الخصوصية الفردية والحق فى المعرفة. كان اختياره للموضوع ذكيًا، لا لحداثته فحسب، بل لأنه يثير أسئلة عميقة عن مستقبل الإنسان فى زمن لا يعرف النسيان، وعن أثر التاريخ الرقمى على فرص الأفراد ومكانتهم فى مجتمعات باتت محكومة بخوارزميات لا تغفر ما تقدّم من الأخطاء. هذا الطرح دفعنى إلى التوقف والتأمل، ثم إلى الغوص فى أبعاد المسألة، باحثًا عن تجلياتها القانونية والاقتصادية، محليًا ودوليًا، فى محاولة لفهمها كحق ناشئ يفرض نفسه على النقاش العام.

 


وإذا كانت أكبر مخاوف البشر ـــــ فى عصر ما قبل الإنترنت ــــــ هى سقوطهم فى غياهب النسيان وانطماس ذكراهم واندراس آثارهم بعد الرحيل، فإن الإنسان المعاصر كثيرا ما يطمع أن تُنسى أفعاله، وأن يختفى أثره، خاصة إذا ما أقدم على قول أو فعل أعقبهما الندم. وفى زمن تغوّل الذاكرة الرقمية، باتت آثار الماضى – الحقيقى منها والمفبرك – تلاحق الأفراد بلا رحمة، تؤثر على سمعتهم، وتحاصر فرصهم فى العمل والتعليم والعلاقات الاجتماعية. هكذا تحوّل «الحق فى النسيان» من مجرد فكرة قانونية أوروبية إلى مطلب إنسانى واقتصادى عابر للحدود، يستدعى أن نعيد التفكير فى علاقة الإنسان بتاريخه، لا بوصفه وثيقة محفوظة فى الأرشيف، بل كبيانات تنتقل بلا سياق على محركات البحث.
• • •
تجسد مفهوم «الحق فى النسيان» لأول مرة بشكل قانونى من خلال حكم صادر عن محكمة العدل الأوروبية عام 2014، فى القضية المعروفة باسم «جوجل إسبانيا ضد وكالة حماية البيانات الإسبانية»، والتى أرست مبدأ قانونيًا جديدًا فى العلاقة بين الأفراد ومحركات البحث. حيث اعتبرت المحكمة أن للفرد الحق فى طلب إزالة الروابط التى تظهر على محرك البحث إذا كانت غير دقيقة، أو غير ذات صلة، أو مفرطة، حتى وإن كانت المعلومات الأصلية صحيحة قانونًا. بذلك أُقر لأول مرة أن حرية تداول المعلومات ليست مطلقة، وأنها مشروطة بالتوازن مع الحق فى الخصوصية والكرامة.
وإذا كانت الأبعاد الاقتصادية لهذا الحق أقل تداولا، فإنها حتما لا تقل خطرا، إذ تزخر مواقع التواصل بحالات مؤلمة لشباب وفتيات فقدوا أعمالهم، أو فرص عمل جديدة بسبب منشورات قديمة على «فيسبوك» أو رأى سبق إبداؤه فى قضية، حتى وإن طُويت صفحاتها أو لم يعد الرأى معبّرا عن أصحابه؟ وكم من شركة خسرت استثمارًا أو شراكة بسبب تصنيف رقمى لها لم يُحدّث منذ سنوات؟ بل إن البنوك وشركات التأمين باتت ــــــ فى بعض الدول ــــــ تثمّن منتجاتها وتقيّم عملاءها بناءً على الخوارزميات التى لا تنسى، والتى تتغذى على كل أثر رقمى، دون أن تمنح الفرد فرصة لتصحيح السجل أو محوه.
هذه الرقمنة المستمرة للسمعة، كما يصفها الاقتصادى الأمريكى «تايلور أوين»، تُحوّل الذكرى إلى سلعة، وتُبقى الماضى قيد التداول الأبدى، ما يُنتج تمييزًا خفيًا فى السوق ضد الأفراد الذين لا يملكون أدوات تبييض السجل الرقمى، ولا يستفيدون من آليات النسيان المؤسسية كما فى أوروبا. وإذ اعتمد الاتحاد الأوروبى فى لائحته العامة لحماية البيانات (GDPR) مادة صريحة تضمن «الحق فى محو البيانات»، وألزم بها الشركات العاملة داخل الاتحاد وخارجه إذا كانت تخدم مواطنيه، فلا تزال العديد من الدول – ومنها مصر – تتعامل مع المسألة بوصفها تقنية لا قانونية، أو أخلاقية لا اقتصادية.
وفى مادته الثانية ينص القانون رقم 151 لسنة 2020 بشأن حماية البيانات الشخصية على حقوق أساسية لحماية الخصوصية، لكنه لم يُقرّ صراحة «الحق فى النسيان» كما ورد فى التشريعات الأوروبية المناظرة، وإن كان يُمكن استنباطه من مدلول «حق التصحيح والحذف»، خاصة إذا كان الاحتفاظ بالبيانات لم يعد ذا مصلحة مشروعة. لكن الواقع العملى فى مصر يشهد غيابًا واضحًا لتطبيقات تُمكن الأفراد من طلب محو أثرهم الرقمي، أو الاعتراض على نتائج البحث المرتبطة بهم، أو على التصنيفات التلقائية التى تولدها خوارزميات لم تُفصح عن معاييرها.
• • •
وبمناسبة حلول موسم الانتخابات البرلمانية، فقد تحول الماضى الرقمى إلى أداة ضغط انتخابية، إذ خسر مرشحون فرص الفوز بسبب تعليقات أو صور أو تسجيلات منشورة لهم منذ سنوات، أُعيد تداولها على نطاق واسع دون سياق. هذا لا يعنى أننى أدعو إلى تبييض التاريخ من الأخطاء، لكن استمرار معاقبة الأفراد رقميًا رغم تصحيح المسار والاعتذار والتوبة (فى كثير من الأحيان) ليس سوى سنة شيطانية. فكل إنسان يتطوّر ويتحسّن، ومنح الفرصة لإعادة تقديم الذات أمام الجمهور يجب أن يكون مكفولًا. فى غياب الحق فى النسيان، يصبح التمثيل النيابى نفسه مهددًا بالتحوّل إلى ساحة اصطياد للماضى لا اختبارًا لرؤية الحاضر والمستقبل.
كذلك يتقاطع «الحق فى النسيان» مع حق الجمهور فى المعرفة وحقوق الملكية الفكرية. فالمؤلف أو الصحفى الذى أنتج مادة عامة قد يُجبر على حذفها أو إخفائها إذا اعتُبرت مسيئة لشخص ما، حتى إن كانت صحيحة تاريخيا. وهذا يُعيد فتح النقاش حول الملكية الفكرية للمحتوى: هل يحق لصاحب المادة الاحتفاظ بها إذا طالب الآخر بالنسيان؟ القانون الأوروبى حاول معالجة هذا عبر الموازنة بين «المصلحة العامة» و«حق الخصوصية»، لكنه لم يُقدم حلًا نهائيًا، ما يدفع نحو الحاجة إلى قواعد تحكيمية مستقلة تفصل فى حالات التنازع كل على حدة.
• • •
فى البرازيل، تبنّى القانون المدنى منذ عام 2014 بعض أحكام «النسيان الرقمى»، لكن المحكمة الفيدرالية العليا رفضت تحويله إلى حق دستورى، معتبرة أنه قد يتعارض مع حرية التعبير. أما الهند، فقد شهدت عام 2021 أول حكم قضائى يمنح مواطنًا الحق فى إزالة قرارات قضائية قديمة من نتائج البحث، لأنها أُسىء فهمها وأثّرت سلبا على سمعته الوظيفية. فى كوريا الجنوبية، ألزمت لجنة الاتصالات الشركات الرقمية بتوفير نافذة مخصصة لمراجعة وإزالة المحتوى القديم، كجزء من «سياسة محو الأثر الرقمى».. هذه التجارب وغيرها تظهر تباينًا فى التعامل مع الحق فى النسيان، لكنها جميعًا تعكس أهميته.
تُعد فرنسا من أوائل الدول التى أنشأت هيئة متخصصة وفاعلة فى هذا المجال، هى «اللجنة الوطنية للمعلومات والحريات»، والتى تضطلع بدور الوسيط بين الأفراد والمنصات الرقمية. فعوضًا عن الاكتفاء بتقديم الطلب مباشرة إلى جوجل أو فيسبوك، يُمكن للمواطن الفرنسى التوجّه إلى هذه اللجنة التى تنظر فى الطلبات وفق معايير واضحة وشفافة. وقد وضعت اللجنة أيضًا قواعد خاصة تتعلق بالمؤسسات العامة والشخصيات ذات الصفة السياسية، بحيث لا يُسمح بحذف المحتوى المرتبط بالمصلحة العامة. وتُبرز التجربة الفرنسية كيف يمكن لتنظيم مستقل، يتسم بالتدرج والموضوعية، أن يُحقق توازنًا معقولًا بين حق الفرد فى الخصوصية وحق المجتمع فى المعرفة.
فى المقابل، ترفض الولايات المتحدة الاعتراف بالحق فى النسيان كمبدأ قانوني، بسبب تعارضه مع التعديل الأول فى الدستور الذى يحمى حرية التعبير. فعلى الرغم من وجود قوانين لحماية البيانات الشخصية (مثل قانون كاليفورنيا للخصوصية)، فإن إزالة نتائج البحث أو حذف أرشيف الجرائد يُعتبر تهديدًا للشفافية والمساءلة العامة. لكن هذا الموقف الرافض للحق فى النسيان بدأ يواجه تحديات متزايدة، خاصة مع تصاعد الجدل حول ظواهر مستجدة مثل «الانتحار الرقمى» (أى رغبة الأفراد فى محو وجودهم الإلكترونى بالكامل هربًا من وصمة الماضى) و«التمييز الآلى» الناتج عن اعتماد المؤسسات على خوارزميات تُصنّف الأشخاص وفق بيانات قديمة أو خارج السياق، فضلًا عن انتشار حالات «الابتزاز الرقمى» القائمة على إعادة تداول صور أو محتويات شخصية نُشرت فى فترات سابقة دون موافقة أصحابها أو بما يخالف قصدهم الأصلى. ما يعنى أن النموذج الأمريكى نفسه قد يضطر فى المستقبل لتبنى نسخة مُعدّلة من الحق فى النسيان.
• • •
بات جليًا أن الحق فى النسيان لم يعد مقصورًا على نطاق الخصوصية الفردية، بل أصبح ركنًا من أركان العدالة الاقتصادية فى العصر الرقمي. ففرص العمل، والحصول على التمويل، وحتى المكانة الاجتماعية، باتت جميعها مرهونة بصورة إلكترونية للفرد، قد لا تعكس حاضره ولا تمثل تحوّله، لكنها تظل عالقة فى فضاء الإنترنت. وفى غياب آليات فعّالة لمحو هذا الأثر أو الحدّ من انتشاره، يتكرّس شكل جديد من اللامساواة الرقمية، تُعاد فيه إنتاج الفجوات بين من يملكون السيطرة على بياناتهم، ومن تُلاحقهم خوارزميات مجحفة لا تعرف الصفح.
أنا لا أنادى بالنسيان الكامل، ولا بمحو التاريخ، بل بإعادة ضبط العلاقة بين الإنسان وبياناته، ووضع آلية تُتيح لكل شخص أن يطوى صفحات لا تعبّر عن حاضره، ولا تُنصفه فى مستقبله. فالحق فى النسيان، فى جوهره، ليس إنكارًا للماضى، بل هو اعتراف بحق الفرد فى أن يُعرّف نفسه كما هو اليوم، لا كما كان تحت وطأة محرك بحث لا يرحم أو سياق لم يعد له وجود.

 

كاتب ومحلل اقتصادى

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات