كم مرة ذهبت إلى المتجر لشراء احتياجاتك، ووجدت أسعار المنتجات ثابتة، ولكن شيئا غريبا قد أصاب بعضها؟! تغليف المنتج أصبح أقل جودة، وزنه بين يديك صار أخف، ناهيك عن مذاقه إن كان منتجا غذائيا .. وقد يتعرّض منتجك المفضّل لمزيج من هذا كله دفعة واحدة أو على مراحل. إن ما عاينته من تراجع فى الجودة أو الوزن أو الحجم هو نوع من التضخم، لكنه لا يتمثّل فى ارتفاع الأسعار، بل فى خفض التكاليف ولو على حساب حق المستهلك واحتياجاته. وكثيرا ما قابلت صديقا لك يعمل فى دولة خليجية، وأقسم لك أن المنتج ذاته الذى يشتريه من مصر يختلف تماما عن مثيله فى دولة المهجر، وأن تلك الدولة تطبّق قواعد صارمة على جودة منتجاتها للمستهلك.
فى ظل موجة التضخم العالمية التى تضرب اقتصادات الدول، يتركز اهتمام المستهلك وصناع السياسات على ارتفاع الأسعار الظاهر للعيان. لكن هناك نوعًا آخر من التضخم أكثر خبثًا وخفاءً، لا يقل خطورة عن التضخم التقليدى، بل قد يكون أكثر ضررًا، إذ يصعب رصده وإثباته. هذا ما يعرف بـ«التضخم الخفى» أو «تضخم تراجع الجودة»، حيث تظل الأسعار دون تغيير تحت ضغط رقابة الدولة، بينما تتراجع جودة المنتجات وكمياتها بشكل مستتر ومستمر. هذه الممارسات لا تعتمد على الإعلان، بل على التحايل البصرى والتدريجى الذى يجعل المستهلك يظن أن كل شىء لا يزال على حاله، بينما الواقع يشير إلى تآكل القيمة الحقيقية لما يشتريه.
تشير أحدث التقارير الصادرة عن صندوق النقد الدولى إلى أن تلك الظاهرة باتت منتشرة بشكل واسع، خاصة فى الدول التى تشهد ضغوطًا تضخمية قوية. فبدلاً من رفع الأسعار بشكل مباشر، تلجأ الشركات إلى خفض تكاليف الإنتاج عبر خفض جودة المواد المستخدمة أو تقليص كميات المنتج مع الحفاظ على نفس سعره الظاهرى. هذه الاستراتيجية تمكّنها من الحفاظ على هوامش ربحها المغالى فيها، دون إثارة غضب المستهلكين بشكل مباشر. ومن منظور اقتصادى بحت، وفى عرف الاقتصاد السلوكى، فإن هذه حيلة ذكية، لكنها تخلق إشكاليات متعددة إذا ما كيلت بمكيالى الأخلاق والقانون.
• • •
فى متاجر التجزئة، أصبح التضخم الخفى ظاهرة يومية، إذ تلجأ العديد من سلاسل «السوبرماركت» الكبرى إلى تغيير عبوات منتجاتها بحيث تبدو بنفس الحجم، بينما تحتوى على كميات أقل. بعضها يستخدم تقنية «قاع مزدوج» فى العبوات، أو يزيد من حجم الفراغات داخل الأكياس.. حتى إن دراسة أجرتها جامعة «هارفارد» عام 2023 وجدت أن 78% من المنتجات الاستهلاكية المعبأة خضعت لشكل من أشكال تقليص الكمية خلال العقد الماضي. هذه البيانات تؤكد أن التضخم الخفى لم يعد استثناءً، بل أصبح قاعدة تجارية عامة.
فى قطاع الصناعات الغذائية، تظهر هذه الممارسة بوضوح. فخلال العام الماضى، لوحظ أن العديد من العلامات التجارية الكبرى للشوكولاتة فى أوروبا قامت بتقليل أوزان منتجاتها بنسب تتراوح بين 5% إلى 15% مع الحفاظ على نفس سعر البيع. بعضها لجأ إلى تغيير تركيبة المنتج باستخدام مكونات أرخص ثمنًا. هذه التغييرات غالبًا ما تكون دقيقة وتدريجية، بحيث لا يلاحظها المستهلك العادى إلا بعد فترة طويلة. ومع تواتر تلك التغييرات، تصبح هذه الظاهرة مألوفة وتعقّد من إدراك المستهلك لحقيقة الأسعار والقيم للمنتجات، بل إن بعض المستهلكين أصبحوا يتعاملون معها بتقبل واستسلام، فى ظل غياب البدائل الموثوقة.
وفى قطاع الخدمات، اتخذ التضخم الخفى أشكالاً أخرى، فالعديد من الفنادق العالمية (خاصة بعد جائحة كوفيد ــــ 19) قلّصت من خدماتها الأساسية مثل عدد مرات تنظيف الغرف أو جودة وجبات الإفطار، بينما حافظت على أسعار الغرف كما هى أو حتى رفعتها!. بعض الفنادق برر هذه الإجراءات تحت ذرائع «الاستدامة» أو «الصحة العامة»، لكن الخبراء يرون أنها مجرد وسيلة للحفاظ على هوامش الربح فى ظل ارتفاع التكاليف. هذه التبريرات تبدو فى ظاهرها مقنعة، لكنها تخفى وراءها سياسة «تقشّفية» تعتمد على تحميل المستهلك الأعباء، دون منحه خيارًا حقيقيًا فى المقابل.
حتى فى قطاع التكنولوجيا، لم تنج المنتجات من ظاهرة التضخم الخفى، فبينما ترتفع أسعار الهواتف الذكية سنويا وخلال السنة، تلجأ بعض الشركات إلى تقليل الميزات المقدمّة للمستهلكين. على سبيل المثال، بعض الطرازات الحديثة من الهواتف المحمولة لم تعد تأتى مع شاحن مجانى، أو باتت تستخدم أنواعا أقل جودة من الزجاج فى الشاشات. هذه التغييرات تتم تحت مبررات «الحفاظ على البيئة» أو «تبسيط المنتج»، لكنها فى الواقع تخفى ارتفاعا حقيقيا فى الأسعار. المستهلك يدفع أكثر، لكنه يحصل على أقل، فى معادلة ظالمة تخلو من الشفافية.
• • •
على المستوى الاقتصادى الأوسع، يشكّل التضخم الخفى تحديا كبيرا لصناع السياسات النقدية. فكما يوضّح الخبير الاقتصادى «مارك زاندى»، فإن مؤشرات التضخم الرسمية تفقد مصداقيتها عندما لا تأخذ فى الاعتبار تآكل جودة المنتجات. هذا التشوّه فى البيانات الإحصائية قد يؤدى إلى قرارات خاطئة للسياستين النقدية والمالية، مما يؤثر على مسار الاقتصاد الكلى، وقد يقود إلى دورة من التيسير النقدى (خفض أسعار الفائدة) بينما التضخم الخفى يلتهم الدخول والثروات بخبث.
يحذر الخبير الاقتصادى «جوزيف ستيجليتز»، الحائز على جائزة نوبل، من أن هذه الممارسات تؤدى إلى تآكل ثقة المستهلكين فى الأسواق على المدى الطويل. فعندما يكتشف المستهلك أن الشركات تخدعه عبر خفض الجودة، بدلاً من رفع الأسعار بشفافية، فإن ذلك يقوّض الثقة فى النظام الاقتصادى بأكمله. كما أن هذه الظاهرة تشوّه مؤشرات الأسعار الرسمية، مما يجعل صنّاع السياسة يتخذون قرارات بناءً على بيانات غير دقيقة. فالتضخم الخفى لا يظهر فى تقارير الإحصاء، ما يخلق انطباعا زائفا بالاستقرار، بينما الواقع مختلف تماما.
• • •
فى مواجهة هذا التحدّى، بدأت بعض الدول فى اتخاذ إجراءات صارمة. فرنسا ــــ مثلاً ـــ أصدرت قانونًا يلزم الشركات بالإعلان عن أى تغييرات فى كميات أو جودة المنتجات قبل ثلاثة أشهر من تطبيقها، كما فرضت الحكومة الفرنسية غرامات كبيرة على المخالفين. وفى كندا، أطلقت هيئة حماية المستهلك منصة إلكترونية خاصة للإبلاغ عن حالات التضخم الخفي، مما ساعد فى كشف العديد من الممارسات الاحتيالية. هذه الخطوات تشكّل بداية جيدة، لكنها لا تزال محدودة الأثر فى ظل تعقيد وتعمّد إخفاء تلك الممارسات، وقبول المستهلك لها على مضض.
بعض الدول بدأت فى تطوير حلول إبداعية لمواجهة هذه الظاهرة، حيث أطلقت الحكومة فى السويد تطبيقاً ذكياً يمكن للمستهلكين من خلاله مسح «الباركود» ومقارنة المواصفات الحالية مع الإصدارات السابقة من المنتج. أما فى سنغافورة، فقد فرضت الحكومة قانونا يلزم المصنّعين بوضع ملصق واضح على أى منتج يخضع لتغيير فى المواصفات أو الكمية لمدة ستة أشهر بعد التغيير. هذه الابتكارات تبعث الأمل فى قدرة التكنولوجيا على أن تكون أداة فعالة لحماية المستهلك فى وجه ممارسات الشركات المضللة.
وقد برزت فى السنوات الأخيرة حركات شعبية على منصات التواصل الاجتماعى لمكافحة التضخم الخفى، حيث انتشرت كلمات «هاشتاج» مثل Shrinkflation (والمقصود بها التضخم عبر تقليص الحجم. بعض هذه الحملات نجحت فى إجبار الشركات على التراجع عن قراراتها، كما حدث مع إحدى شركات المشروبات الغازية الكبرى، التى اضطرت إلى إعادة حجم العبوة الأصلى بعد حملة شعبية واسعة. هذه الحملات تثبت أن صوت المستهلك لا يزال له أثر فى هذه اللعبة.
لكن المراقبين والخبراء يتفقون على أن الحل الجذرى يتطلب وعيًا أكبر من جانب المستهلكين، كما أن وسائل الإعلام وأجهزة حماية المستهلك تلعب دورا أكبر فى كشف هذه الممارسات، وزيادة الوعى العام بها. وفى ظل تنامى استخدام الإنترنت، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعى ساحة رئيسة لفضح حيل التضخم الخفى، خاصة أن صور المنتجات القديمة والمعدّلة أصبحت تنتشر بسرعة، كاشفة أدق الفروقات التى كانت ستمر دون أن يلاحظها أحد.
• • •
يتوقع خبراء الاقتصاد استمرار تفاقم هذه الظاهرة فى السنوات القادمة، خاصة مع استمرار ضغوط التضخم العالمية. لكنهم يشيرون أيضاً إلى أن الوعى المتزايد لدى المستهلكين والتطور التكنولوجى قد يوفران أدوات أفضل للكشف عن هذه الممارسات. السؤال الأهم الذى يطرح نفسه هو: هل ستنجح الحكومات والمنظمات فى تطوير آليات رقابية أكثر فاعلية، أم أن التضخم الخفى سيصبح سمة دائمة فى الاقتصاد الحديث؟ الإجابة عن هذا السؤال تتطلب حشدًا من الجهود، تبدأ من الوعى وتنتهى بالتشريع والتنفيذ والمساءلة.
التضخم الخفى ليس مجرد ظاهرة اقتصادية عابرة، بل هو تحوّل جوهرى فى طريقة تعامل الشركات مع أزمات التكاليف. تتطلب مواجهته تعاوناً بين الحكومات والقطاع الخاص والمستهلكين. وكما قال الاقتصادى الحائز على جائزة نوبل «بول كروجمان»: «فى عالم أصبحت فيه الحيل أكثر ذكاءً من القوانين، نحتاج إلى وعى أكثر ذكاءً من الحيل».