‫لماذا يجب أن تتخارج الدولة؟‬ - مدحت نافع - بوابة الشروق
الثلاثاء 20 مايو 2025 12:05 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

‫لماذا يجب أن تتخارج الدولة؟‬

نشر فى : الإثنين 19 مايو 2025 - 6:30 م | آخر تحديث : الإثنين 19 مايو 2025 - 6:30 م

‬يراهن المؤيدون لملكية الدولة بأن سيطرة الحكومات على القطاعات الأساسية يمكن أن تساهم فى تحقيق استقرار اقتصادى طويل الأمد، وضمان توزيع عادل للموارد، إضافةً إلى دعم التخطيط الاستراتيجى المستقبلى، أحد أبرز الاقتصاديين الذين دافعوا عن هذا الدور هو «جون مينارد كينز»، الذى شدد على أن الحكومات يجب أن تلعب دورًا نشطًا، لا سيما من خلال الإنفاق العام لتحفيز الطلب فى فترات الركود الاقتصادى، مما يساعد فى تجنب الأزمات الاقتصادية الكبيرة، فى هذا السياق، تدخل الدولة ليس فقط كمنظم للأسواق، بل أيضًا كمحفز للنمو عندما يكون القطاع الخاص غير قادر على تحفيز الطلب بشكل كافٍ.‬

 


من جهة أخرى، ركز الاقتصادى الأمريكى «جوزيف ستيجليتز» على أهمية التدخل الحكومى للحد من عدم المساواة الاقتصادية، وضمان توزيع أكثر عدالة للموارد، ويعتقد «ستيجليتز» أن السوق وحدها لا تكفى لتحقيق التنمية الشاملة، بل يجب أن تتدخل الحكومات لضبط السياسات الاقتصادية وضمان وصول الفوائد الاقتصادية لجميع شرائح المجتمع، ويدعم هذا الرأى الاقتصادى التركى «دانى رودريك»، الذى أشار إلى أن الدول التى حققت نجاحًا اقتصاديًا لم تعتمد على الأسواق المفتوحة فقط، بل قامت بتطبيق استراتيجيات حكومية لتوجيه الاقتصاد وتعزيز التصنيع المحلى.‬

 


علاوة على ذلك، ركزت «مارينا مازوكاتو» على دور الحكومات فى قيادة الابتكار، موضحة أن العديد من التقنيات الحديثة، مثل الإنترنت والهواتف الذكية، تم تطويرها بتمويل حكومى مباشر، فهى تؤكد أن الحكومات ليست مجرد جهات تنظيمية، بل يمكنها أن تكون محركات رئيسية للتقدم الاقتصادى والتكنولوجى، هذا النهج ينسجم مع أفكار الاقتصادى البريطانى من كوريا الجنوبية «هاجون تشانج»، الذى يرى أن الدول الناجحة اقتصاديًا قد اعتمدت على سياسات حكومية قوية لحماية الصناعات المحلية ودعم الابتكار، بدلاً من ترك السوق تحدد جميع مسارات النمو.‬
• • •‬
على الجانب الآخر، يرى الاقتصاديون الكلاسيك والليبراليون المحدثون وعدد من المدارس الفكرية فى الاقتصاد، أن تقليص دور الدولة فى الاقتصاد هو المفتاح لتحقيق الكفاءة والابتكار، من خلال تعزيز المنافسة وتشجيع ريادة الأعمال، وقد شدد «آدم سميث» مؤسس علم الاقتصاد الحديث، فى كتابه «ثروة الأمم»، على أن الأسواق الحرة، عندما تعمل دون تدخل حكومى، تحقق أفضل النتائج من حيث تخصيص الموارد وتحفيز النمو الاقتصادى، حيث تقوم «اليد الخفية» بتنظيم السوق بكفاءة عبر التفاعل الطبيعى بين العرض والطلب، ويعد «ميلتون فريدمان»، أحد أبرز المدافعين عن اقتصاد السوق الحرة، أكد فى كتابه «الرأسمالية والحرية» أن تدخل الدولة يؤدى إلى تشوهات فى السوق ويقلل من الكفاءة الاقتصادية، مشيرًا إلى أن تحرير الأسواق يعزز الابتكار والمنافسة العادلة.‬
 أما الاقتصادى النمساوى «فريدريش هايك»، فقد حذر فى كتابه «الطريق إلى العبودية» من أن تدخل الدولة فى الاقتصاد يؤدى إلى تآكل الحريات الفردية وخلق بيئة غير تنافسية، حيث تصبح القرارات الاقتصادية مركزية، بدلًا من أن تكون مدفوعة بآليات السوق الحرة، من جهة أخرى، يرى «جوزيف شومبيتر» فى نظريته حول «التدمير الخلاق»، أن الابتكار والتقدم الاقتصادى يتحققان عندما يكون هناك منافسة حرة، مما يستدعى تقليص دور الدولة فى الاقتصاد، لضمان ديناميكية السوق واستمرارية الابتكار، أما الاقتصادى «دوجلاس نورث»، فقد أكدت أبحاثه أن المؤسسات الاقتصادية الفعالة تعتمد على الحد من التدخل الحكومى؛ حيث يؤدى ذلك إلى تحسين بيئة الأعمال وجذب الاستثمارات، مما يسهم فى رفع معدلات النمو الاقتصادى.‬
• • •‬
ولا يكاد الحديث عن تخارج الدولة من النشاط الاقتصادى فى مصر يطرح على مائدة الحوار، حتى يثير خلافًا حادًا بين أصحاب الفكر الحر، وذوى الاتجاهات الاشتراكية فى الاقتصاد، ولا يزال مفهوم «الإصلاح الهيكلى» فى عرف مؤسسات التمويل الدولية محمولاً على توقف الدولة عن مزاحمة القطاع الخاص، وخصخصة الأصول المملوكة لها فى مختلف القطاعات، حتى اكتسب سمعة رديئة، واحتمل مظنّة الرضوخ لإملاءات أجنبية، لكن الواقع الاقتصادى لمصر يفرض علينا أن ننظر إلى الأمر من زوايا مختلفة، تعبر بنا فوق الاختلافات الأيديولوجية، ونظرية المؤامرة الغربية، التى كثيرًا ما تصدق، لكنها يجب أن تدار كأى نوع من المخاطر، لا أن يتم تجنّبها فزعًا وهلعًا كما يريد البعض.‬
الزاوية الأولى التى تعزز من ضرورة تخارج الدولة من النشاط الاقتصادى (إلا ما اضطرت إليه) هى تخصيص الموارد الشحيحة، فإذا كانت مصر تعانى من شح طبيعى فى أهم الموارد الطبيعية، وفى مقدمتها المياه العذبة والطاقة والمعادن الأساسية (وليس أدل عليها وقاطعًا للجدل فيها من نصيب الفرد من تلك الموارد) فإن حسن تخصيصها يشترط العهود بإدارتها إلى من هو أكفأ وأكثر قدرة على خفض الهدر، وإتاحة التدريب والتأهيل، وتوفير كافة أسباب وتقنيات إدارة الموارد الحرجة Critical Resource Management CRM، فضلاً عن وعدم الرضوخ فى التعيينات والترقيات إلى أى اعتبار بخلاف الكفاءة والإنتاجية.. كل ذلك يقدمه القطاع الخاص، الذى يحكمه عاملان نادرًا ما يتوافران فى الإدارة الحكومية وهما: التنافسية والسعى إلى الربحية. ‬
ولا يعنى ذلك أن تتوقف الدولة عن الاضطلاع بمهامها فى الرقابة والتنظيم، والتى يتوقف عليها وحدها تنقية الأسواق من عناصر القطاع الخاص سيئة السمعة، التى يصدرها الفساد المؤسسى كوجه مألوف لهذا القطاع، وبه وحده يتذرع البعض بأن الحل فى القطاع العام!.. بل على العكس، فالحكومة متى انصرفت عن منافسة القطاع الخاص فيما يتقنه، تمكنت من التفرغ لأداء وظائفها الرقابية والتنظيمية، وتحسينها باستمرار، ويجوز لبعض مؤسسات وأذرع الدولة الاشتراك أحيانًا فى العملية الإنتاجية، من خلال صور الشراكة مع القطاع الخاص، إذا كانت تلك المشاركة تصب فى صالح المستهلك ولا تضعف من الكفاءة.‬
الزاوية الثانية التى تحتم على الدولة عدم مزاحمة القطاع الخاص الوطنى والأجنبى، هى زاوية «براجماتية» صرف، تتمثل بكل بساطة فى ضيق الحيز المالى للحكومة، فإذا كانت معظم الإيرادات العامة تلتهم فى سداد خدمة الديون، فإن ما تبقى من إيرادات لسداد الأجور والمشتريات الحكومية والاستثمارات العامة الضرورية فى البنية الأساسية، وبناء الإنسان المشروط بحجم الإنفاق على التعليم والصحة، ودعم الفقراء الذين تتزايد نسبتهم باضطراد.. لا يكفى أبدًا كى تتوسع الدولة فى الإنفاق الاستثمارى فى مجالات صناعية وزراعية وخدمية متنوعة، ومن ثم لا تنفك الحكومة -كى تتغلب على تلك العقبة الهيكلية- أن تستمر فى التوسع فى الاستدانة من الداخل والخارج لسد عجزى الموازنة العامة وميزان المدفوعات، فالحكومة فقيرة إذن، ولا تملك المال الكافى للمنافسة فى مجالات الاقتصاد المختلفة، ومن ثم، فإذا أرادت أن يتسع حيزها المالى قليلًا، ليس أقل من تخفيض التزاماتها فى هذا الباب، لا يتحقق ذلك فقط بالتوقف عن الدخول فى مشروعات جديدة، ولكن أيضًا بالتخارج من المشروعات القائمة، والتى تثقل كاهل الدولة بمتطلبات الاستثمار فى زيادة رؤوس أموالها، وإعادة تأهيلها تقنيًا وعماليًا، وتحسين القدرة على مواكبة الشركات الكبرى التى تتخطى إيرادات بعضها الناتج المحلى لعدد من الدول، ناهيك عن وموازنات حكوماتها!.‬
• • •‬
فى النظريات والمدارس الفكرية الاقتصادية إذن إن ما يدعم تدخل الدولة وما يدعم تخارجها، لكن انطباق أى نظرية فى الواقع مشروط بتحقق فروضها، ولا تتحقق لمصر اليوم فى ظل ندرة مواردها، وضيق الحيز المالى لحكوماتها، وربقة ديونها، وعزوف مستثمريها بفعل المزاحمة.. شروط التدخل فى النشاط الاقتصادى إلا فى أضيق الحدود.   ‬

 

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات