عبدالناصر والعقد الاجتماعى مع الشعب - علاء الحديدي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 11:03 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عبدالناصر والعقد الاجتماعى مع الشعب

نشر فى : الإثنين 15 يناير 2018 - 9:00 م | آخر تحديث : الإثنين 15 يناير 2018 - 9:00 م
تمثل الذكرى المئوية لميلاد الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر فرصة لبحث وتقييم لبعض من أوجه تجربته، وهى عديدة، خاصة فى ظل ما يتم توصيفه حاليا بأنه جهود لإعادة بناء الدولة بعد محاولة إسقاطها. وهو الأمر الذى يستدعى تجربة عبدالناصر فى إعادة «صياغة» الدولة، واستخلاص بعض العبر والدروس منها. وأود هنا الإشارة إلى البعد الخاص بعلاقة الدولة بالمواطن، أو ما يطلق عليه علماء السياسة بـ«العقد الاجتماعى». وهو ما يعنى تلك الحقوق والواجبات التى كانت على كل من الدولة والشعب إزاء بعضهما البعض. فكيف كانت فى عهد عبدالناصر؟ وماذا كان مصيرها؟

لا شك أن علاقة الدولة بالمواطن والشعب، تعد من أعقد القضايا وأصعبها، خاصة فى ظل الدول التى لم تستقر فيها بعد نظم الحكم ومؤسسات الدولة المختلفة. فالدول المعروفة باسم الدول «الغربية الديمقراطية» قد استقر فى ذهن شعوبها وعقلها الجمعى ما يتمتع به المواطن أو الشعب من حقوق وواجبات، فى مقابل ما تتمتع به الدولة أو الحكومة من سلطات والتزامات. وكأنه قد تم إبرام «عقد» بين الحاكم والمحكوم يحدد طبيعة العلاقة بينهما، وما ينتظره كل طرف من الطرف الآخر. وإذا أخل أى طرف منهما بما فى هذا «العقد» من حقوق وواجبات، فهناك من الآليات والممارسات المتفق عليها ما يضمن إصلاح أو تصحيح أى خلل يصيب هذه العلاقة. وعليه، فهناك قواعد ومؤسسات وتقاليد وممارسات، لها من القدسية والاحترام ما يرقى إلى مستوى القدسية والاحترام التى تتمتع بها الأديان السماوية، سواء كنا نتحدث عن المؤسسات التشريعية كمجلس النواب أو غيره، أو كنا نتحدث عن الحريات العامة وحقوق الإنسان.

أما فى مصر، والتى تعتبر خارج إطار هذه الدول أو النظم الغربية الديمقراطية، فما زالت العلاقة بين الدولة والمواطن أو الشعب، تعد من العلاقات الشائكة التى لم يتم حسمها حتى الآن. وبالتالى فعلينا العودة إلى التاريخ الحديث وحقبة عبدالناصر تحديدا، حتى نفهم كيف تشكلت هذه العلاقة، ثم ما صاحبها من تطورات وإشكاليات أدت فى النهاية إلى ما نحن فيه اليوم من معضلة واختيارات صعبة. بداية، يرى البعض أن تحيز عبدالناصر لقضايا الحقوق الاقتصادية والعدالة الاجتماعية على حساب القضايا والحقوق السياسية ممثلة فى الحريات العامة والخاصة، قد انعكس على اختياراته فى الحكم، وصبغ الدولة بالنهج الاشتراكى. وكانت الإجراءات الاشتراكية التى تم اتخاذها فى بداية الستينيات مع ما صاحبها من إنشاء نظام الحزب الواحد، ممثلا فى الاتحاد الاشتراكى، هو العقد الاجتماعى الذى تم صياغته بين الدولة والشعب وقتئذ. كما كان لشخصية عبدالناصر وشعبيته الجارفة ما رسخ تلك العلاقة وأكسبها ما نالته من شرعية. إلا أن حرب ٦٧ وما أعقبها من هزيمة أدت إلى شرخ هذه العلاقة واهتزاز شرعيتها، وبات من الضرورى البحث عن كيفية إصلاح هذه العلاقة أو «العقد» وبما يلبى مقتضيات المرحلة وإعادة بناء الجيش. وكان من الملفت اعتراف عبدالناصر نفسه بما أصاب أداء الدولة من قصور فى بيان 30 مارس 1968 وأهمية تعديل المسار الداخلى فيما يتعلق بالقضايا والحقوق السياسية، رغم حساسية المرحلة ودقة الأوضاع.

كان اعتراف عبدالناصر فى بيان 30 مارس بأهمية مبدأ «الانتخاب الحر» من القاعدة إلى القمة داخل الاتحاد الاشتراكى ذاته، (وهى أبسط الحقوق والممارسات الديمقراطية)، ما ينم عن إدراكه لصعوبة حماية ما كان يسمى بالمكاسب الاشتراكية، أى الاجتماعية، من دون مشاركة شعبية حقيقية لا صورية. وكان ذلك بداية التحول الذى طرأ على نهج الدولة فى الاعتراف بأبسط قواعد الحقوق السياسية بجانب الحفاظ على الحقوق الاجتماعية. إلا أن وفاة عبدالناصر فى سبتمبر 1970 وتولى السادات الحكم عجل بالانتهاء من ذلك العقد الاجتماعى الذى نشأ بين الدولة والشعب فى عهد عبدالناصر، وبداية إطلاق عقد اجتماعى جديد. ولكن ذلك لم يتم بخطوة واحدة، ولكن على عدة خطوات، بدأت بما أطلق عليه السادات وصف «ثورة التصحيح» فى 15 مايو 1971. وكان السادات يدعى أنه يمهد لعقد اجتماعى جديد يعلى من شأن دولة القانون وسيادة المؤسسات، وذلك لتصويب ما شاب الممارسات السياسية السابقة فى عهد عبدالناصر من قصور وشوائب. وكان مشهد حرق التسجيلات التليفونية إدانة صريحة لانتهاك الخصوصيات، ناهيك عن إنتاج وعرض أفلام مثل «الكرنك»و«زائر الفجر» فى جميع دور العرض السينمائى والتى صورت كيف كان يتم انتهاك حقوق الإنسان فى عهد عبدالناصر. هذا، ولم يتوقف الأمر على ذلك، حيث بدأ السادات ما بدا أنه عملية تحول سياسى من نظام الحزب الواحد إلى نظام تعدد الأحزاب. فى ذات الوقت الذى كان يتم فيه تدريجيا استبدال أولوية الحقوق الجتماعية بقضية الحقوق السياسية والتعددية الحزبية. وكانت قرارات القيسونى (وزير الاقتصاد وقتئذ) فى يناير 1977 بتقليص الدعم ورفع أسعار العديد من السلع والخدمات وعلى رأسها الخبز، البداية الفعلية لتخلى الدولة عن دورها الاجتماعى وفسخ عقد عبدالناصر الاجتماعى بتبنى ما أطلق عليه بسياسة الانفتاح الاقتصادى.

جاء مبارك إلى الحكم بعد اغتيال السادات فى عام 1981 ليكمل سياسة سلفه فى تراجع الدولة عن الاهتمام بالقضايا الاجتماعية، أو حتى محاولة معالجتها. وليأخذ الحكم شكل الانحياز الصارخ لمجموعة من رجال الأعمال، وتبنى سياسات تهدف إلى تعميق الانفتاح الاقتصادى الذى بدأه السادات. فكانت عمليات بيع القطاع العام تحت مسمى الخصخصة، فضلا عن توزيع الأراضى ودعم القطاع الخاص على حساب تقديم الخدمات للشعب، ودون ان يصاحب ذلك عملية إصلاح سياسى حقيقية، أو حتى محاولة الظهور بذلك مثلما فعل السادات من قبل مع ثورته التصحيحية. وكانت النتيجة انهيار العقد الاجتماعى بغياب ما كان الشعب يحظى به من حقوق اجتماعية فى عهد عبدالناصر أو حتى حقوق سياسية ظاهرية فى عهد السادات. ومع زيادة الضغوط الاجتماعية ودون وجود متنفس سياسى حقيقى فى أحزاب كان من المفترض أن تمارس دورها كما يحدده الدستور والقانون، فقد انفجرت الأوضاع فى يناير 2011 وخرجت الجماهير بمطالب سياسية واجتماعية لتنادى بعقد اجتماعى جديد بعد تحلل أو انتفاء وجود عقد اجتماعى يربط الشعب بالدولة.

عودة على بدء، لا شك أننا بصدد عقد اجتماعى جديد بعد ثورة 30 يونيو لم تتضح معالمه النهائية بعد. ومع تحدى الإرهاب الذى فرض أولوية الأمن على ما عداه من قضايا، خاصة قضايا حقوق الإنسان والحريات، فضلا عما تمثله الأزمة الاقتصادية من خيارات وإجراءات يدفع ثمنها المواطن البسيط، فإن المطلوب هو العمل على صياغة عقد اجتماعى جديد يأخذ فى الاعتبار هذا التوازن الدقيق بين حقوق المواطن السياسة والاجتماعية من ناحية، وبين أمن وسلطات الدولة من ناحية أخرى. وكما رأينا من تجربة عبدالناصر، فإن أى عقد اجتماعى بين الدولة والشعب يقوم فقط على ضمان العدالة الاجتماعية بدون تحصين هذا العقد بمشاركة شعبية حقيقية، كانت تعنى أن أى مكتسبات اجتماعية كان يحققها هذا العقد ستنهار بسهولة لعدم وجود أى مؤسسات ديمقراطية تدافع عن هذه المكتسبات وتحميها. وإذا كان هناك من درس يستفاد منه، من تجربة عبدالناصر فى ذكرى ميلاده المئوى، فإنه لا يمكن تجاهل الحقوق السياسية بحجة أولوية القضايا الاجتماعية، تماما كما أنه لا يمكن تجاهل قضايا العدالة الاجتماعية والتعويل على مظاهر حياة سياسية من دون ممارسة فعلية.
التعليقات