تشهد الأسابيع القليلة المقبلة استحقاقين رئيسين، هما الانتخابات الرئاسية التى بدأت إجراءات الترشح لها الأسبوع الماضى، وصياغة الدستور الجديد، وثمة مساعٍ من الإدارة السياسية المؤقتة تدفع باتجاه سير الاستحقاقين بشكل متواز، وهى مساعٍ تتناقض مع خارطة الطريق المتفق عليها فى استفتاء مارس الماضى، وكذلك مع المصلحة الوطنية العامة.
فأما التناقض مع خارطة الطريق فلأنها جعلت الانتخابات الرئاسية سابقة لوضع الدستور، وهو ما أكده الإعلان الدستورى المؤقت، وصار معلوما للكافة من كثرة ما تناولته المقالات والندوات، غير أن المطالبات باحترام الديمقراطية لم تصل ــ فيما يبدو ــ للقائمين على إدارة الأمور فى مصر إلى الآن.
وأما التناقض مع المصلحة الوطنية فلأن كلا الاستحقاقين يحتاج لأجواء مختلفة عن الآخر ليؤتى ثماره على النحو المرجو، فالانتخابات الرئاسية جوهرها التنافس بين مشروعات سياسية مختلفة، تتدافع فى المجال العام ويلتف أنصار كل منها حول مرشح بعينه لا حول تيار سياسى عريض تتنوع اتجاهات أفراده كما هو الحال فى الانتخابات البرلمانية، وهو أمر له آثار جلية.
ولأن الانتخابات الرئاسية هى الأولى بعد الثورة فإنها تمثل جزءا من عملية إعادة تركيب الخريطة السياسية للبلاد التى بدأت باندلاعها، ويظهر ذلك فى مشروعات المرشحين المختلفين، التى يحاول أكثرها الانطلاق إلى تحالفات سياسية جديدة بعيدة عن التقسيم الأيديولوجى الكلاسيكى لروافد الحركة الوطنية المصرية (الإسلامى، والقومى، واليسارى، والليبرالى)، وكذا عن تقسيم القوى المجتمعية على أساس الهوية («الإسلامية» و«المدنية» وقد جعلت كلا منهما بين قوسين لأنهما يفتقران للتعريف الدقيق الذى يفصل أحدهما عن الآخر)، إذ يظهر فى خطابات المرشحين وهياكل حملاتهم سعى عدد منهم لإعادة تعريف الخطوط الفاصلة بين هذه الروافد والأقسام، لتكون أقل حدة وأيديولوجية، وهو أمر من شأنه إعادة تعريف وحدات الانتماء السياسى.
وإعادة تعريف الفواصل بين تيارات الأيديولوجيا والهوية المختلفة تبدو واضحة فى حالة المرشحين المحسوبين على القوى الإسلامية، إذ تباينت مواقفهم من قضية (الجماعة الوطنية) فاختار البعض التترس خلف الفواصل التقليدية محافظا على تعريف (الإسلامى) كهوية وأيديولوجية وبرنامج سياسى فى آن واحد، واختار غيره الجمع بين الهويتين (المدنية والإسلامية)، والتحرر من العقل الأيديولوجى، والاتجاه ــ فى المشروع السياسى ــ إلى نقاط الالتقاء مع القوى الوطنية الأخرى، فتباينت اختياراتهم الاقتصادية بين اليسار والليبرالية، وكذا تباينت مواقفهم فى أسئلة السياسة الخارجية ذات الصلة بالعلاقات الإقليمية، وكان كل طرف منهم فيها أقرب لأحد التيارات السياسية الأخرى.
وكذا الأمر عند مرشحى اليسار، فقد تباينت مواقفهم من الهوية الإسلامية، فحافظ بعضهم على الموقف الكلاسيكى المحمل بالخلافات التاريخية واعتبر القوى الإسلامية خطرا فى المجمل، فيما كان نقد بعضهم لبعض سياساتها مقتصرا عن توجهاتها السياسية بعيدا عن قضايا الهوية، وظهرت تباينات مواقفهم فى السياسة الخارجية (ما يتعلق بالموقف مع سوريا مثلا)، فظهر بعضهم أقرب للتيارات القومية وبعضهم أقرب لقوى اليسار والإسلاميين.
والأسابيع القليلة المقبلة مرشحة لشهود المزيد من التفاعلات، إذ سيؤدى فشل بعض المرشحين فى استكمال الأوراق والتوقيعات اللازمة لترشحه، أو رغبة غيرهم فى زيادة فرص نجاح مشروعاتهم، لدخولهم فى مفاوضات تؤدى فى النهاية لتحالفات على أسس أكثر تركيبا من القوالب المبنية على الهوية والأيديولوجيا الجامدة التى انطلقوا منها فى الأساس، وهو ما من شأنه تحريك الكثير من المياه الراكدة فى الساحة السياسية، وتجاوز القضايا المعطِلة والخلافات التأريخية التى تحكم الساحة السياسية إلى قضايا أكثر جدية تتعلق بالسياسات العملية التى تصون الاستقلال الوطنى، وتحقق العدالة الاجتماعية، وتحمى حقوق الأفراد والمجتمع، أى الترجمة العملية لشعارات الثورة.
وحدوث هذه التفاعلات إنما يعنى تفكك الأوعية السياسية القائمة، ووجود حالة من السيولة السياسية، تسبق إعادة التشكل، التى ستستغرق وقتا لا يقل عن أشهر لتبدأ أسس الفرز الجديدة فى تشكيل وحدات سياسية على أساسها، وسنوات لاستكمال هذا البناء واستقراره، وبناء على ذلك يمكن القول إن لحظة الانتخابات الرئاسية تمثل قمة التنافس والسيولة السياسية.
وفى المقابل فإن الدستور يفترض فيه التركيز على مساحات التوافق لا التنافس، ووضع الأسس التى يستقر عليها النظام السياسى لا البرامج السياسية المتغيرة بتغير أطراف الحكم، ومن ثم فإن كتابته تحتاج لمناخ أهدأ يسمح بنقاش مجتمعى حقيقى، ويفتح المجال أمام طرح القضايا والجدل حولها والوصول لأفضل الصياغات.
والنقاش الدستورى ــ بسبب العجلة وعدم ملائمة المناخ ــ إنما يدور حول قضايا محددة، تتعلق بتوزيع السلطات بين المؤسسات المنتخبة للدولة، ويخشى الكثيرون من فتح النقاش حول القضايا الأكثر عمقا لئلا يتفجر الوضع وتظهر الحاجة لنقاش أعمق، غير أن كتابة الدستور بهذه الطريقة ضارة، لأنها تحاول الوصول إلى نقطة الاستقرار قبل أوانها، فتكون النتيجة إما النجاح فى فرض وضع معين باعتباره استقرارا ومن ثم تعطيل مسار الثورة ــ وهو احتمال مرجوح ــ أو كتابة دستور يعبر عن توازنات غير مستقرة، فيتجاوزه الواقع السياسى سريعا، ويفرض إعادة كتابته، فيكون المجهود الأول قد ذهب سدى.
والتأنى قبل الشروع فى صياغة الدستور، بحيث لا يبدأ ذلك إلا بعد الانتخابات الرئاسية، من شأنه إفساح الوقت أمام التفاعلات السياسية، وهو ما يعنى أن يتجاوز الدستور قضية الاستقطاب على أساس الهوية (وهى قضية ذات أثر كبير فى الواقع السياسى المصرى، والأرجح أن تحالفات المعركة الرئاسية ستساهم فى تخفيفها بقطع النظر عن النتائج)، وأن ينصب النقاش فيه حول المسكوت عنه من إعادة تعريف علاقة المواطنين بالدولة، وتعريف المواطنة والحقوق والواجبات المترتبة عليها، وضمانات سيادة مجموع المواطنين على مؤسساتهم الدستورية، وتوكيد سيادة الشعب على قراره السياسى.