البيئة الرقمية عنصرٌ فاعل فى تحليل النص - العالم يفكر - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 3:34 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البيئة الرقمية عنصرٌ فاعل فى تحليل النص

نشر فى : الجمعة 17 مايو 2019 - 11:05 م | آخر تحديث : الجمعة 17 مايو 2019 - 11:05 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا لكاتب «غسان مراد» تناول فيه موضوع الكتابة الرقمية وجاء فيه:
ما زالت علوم اللغة فى حيرة من أمرها؛ كيف لها أن تُعالِج نصا من الناحية الصرفية والنحوية والدلالية، تفسيرا وتحليلا، ومن ناحية اللسانيات النصية ولسانيات المدونات، وهو ــ أى النص ــ لم يعُد «نصا» بالمفهوم الكلاسيكى للنص، المؤلَف من مُفردات وجُمل وتراكيب، مُجملها ألفبائية، بل من إشارات وعلاقات وشاشات وأجزاء متشعبة شكلا وتشكيلا؟

ترتكز الكتابة الإلكترونية على مفهوم التشعبية، وتعمل، تشبيها، كما يعمل الدماغ البشرى، من خلال ترابُط الأفكار. إنَ هذا التشبيه من المُمكن أن يكون تشبيها طبيعيا لفهْم المعلومات. ويبدو أنَ الفكرة الشائعة حاليا أن الدماغ البشرى لا يتعاطى مع النص المطبوع كما يتعاطى مع النص الرقمى، ولكن حتى الآن، تُبرهن الأبحاث التى تعمل على دراسة كيفية تمثيل العقل البشرى للوثائق الرقمية على أنَ هذه العملية ما زالت صعبة، وأنَ العقل البشرى لا يفهم الوثائق الرقمية بسهولة، كما يُقال حاليا.

لذا، فإن السؤال عن كيفية تصميم النصوص الرقمية الصالِحة للاستعمال أمرٌ مهم جدا، ويطرح أسئلة حول استخدام هذه الوثائق؛ فمثلما لا يُمكن كتابة نص بشكلٍ مُرتجَل، فإنَ تصميم الوثيقة الرقمية له قواعد خاصة ترتبط بطبيعة الوسيط وبنَوع النص الَذى سنعرضه أو ننشره. ومن أبرز المُشكلات الموجودة حاليا فى عالَم الكِتابة النصية، هى أنها تقتصر على هَيْكَلة النصوص المُنتَجة سابقا.

***
وقد بدأ العنصر البشرى يأخذ تدريجيا حيزا فى تصميم الوثائق الرقمية، من خلال «بيئة العمل الإدراكية»، وهدفه تسهيل العملية المَعرفية لتخزين المعلومات ومُعالَجتها. فالوثائق الرقمية، كما أى كتابة، لا تُنتَج من قبيل المصادفة، بل لها هدف، وتأتى فى سياق نشاطٍ معين (تعليم، تواصل، ترفيه، عمل...). من هنا، يُمكننا القول إن بيئة العمل المَعرفية هى لتحديد مَوقع هذا التفاعُل فى سياق تصميم التطبيقات وتطورها لإنتاج الوثائق ووضْع معايير وقيود لاستخدامها.

وتحدَد بيئة العمل الإدراكية، أولا، بالمعلومات الآتية من الخارج المُتمثِلة بالإدراك الحسى على أنواعه، وبتحليل المعلومات الذى يرتكز على المَعرفة المُدركة من الذاكرة الآنية، ثم على ما هو فى الذاكرة الآنية وفى الذاكرة العميقة، للاعتماد على مَعرفة مسبقة، وأخيرا على التمثيل المَعرفى للمعلومات فى الدماغ البشرى كصور ذهنية.

وهنا تكمن أهمية العلامات الأيقونية التى تساعد المُستخدِم على تمثيل المَعرفة ومُعالجتها. لهذا، فهناك دَورٌ للتجزئة ولتنظيم الهَيكل النصى فى عملية الفهم والتذكر. فالكتابة اليوم، حتى باستخدام الحاسوب، ما زالت مُرتكِزة على اعتبارات تجريبية مُكتسَبة من ثقافة المطبوع من دون أخذ ثقافة الشاشة بالاعتبار.

كما أنَ ما تقدمه بَرامج الكتابة الإلكترونية للنصوص التى تُنشر على الإنترنت، هى بصيغة موسمة (Tag’s)، لا يراه المُستخدِم مباشرة، (المُستخدِم يرى التمثيل للنص على الشاشة)، بشكلٍ يستطيع استغلاله لإضافة دلالات على نصه جراء هذه الميزات التى تقدمها تطبيقات الكتابة. فضلا عن ذلك، فإنَ الأبحاث والتجارب التى تتعلق بالوثائق الرقمية ما زالت غير ثابتة، إن كان لناحية عِلم النَفس الإدراكى أو علوم اللغة والعلوم الجينية والدماغية.. وتأثيرها فى الأدوات ما زال مُشتَتا. فالنصية هنا هى مَسارات القارئ المُحتمَلة، وهى ترتكز على الاستمرارية، والوسيط، والكاتِب، وسياق التنفيذ تقنيا، كما وسياق التلقى تقنيا.

أما المعلومات المُتاحة فى النص، كما هيكل النص، فلهما دَور يؤثِر فى التمثيل ــ التصور ــ الذى يبنيه القارئ للنص. هذا التمثيل المتأثِر بمضمون الوثيقة وشكلها مَبنى على وسيط ثالث لم يكُن مأخوذا بالاعتبار فى الدراسات والأبحاث السابقة، على الرغم من أن تحليل بعض الأشكال النصية كانت تعطى الشكل أهمية فى عملية التحليل (كدليل المُستخدِم أو وصفات الطبخ وغيرها)، ولكن هذا التحليل لم يتعدَ البُعد المفرداتى والنحوى والدلالى لأجزاء النص، وتبقى كتلة نصية فى الحيِز التشكلى ــ الطباعى نفسه.

***
فى الكتابة الورقية، يجب أن تكون القراءة من البداية حتى النهاية. أما القراءة الإلكترونية فهى مجزَأة، والتجزئة، كما أصبح معروفا، ليست «للزينة»، وهى تُعد حاليا من أهم العناصر التى من المُفترض الاهتمام بها، لأنها تشكِل الروابط مع النصوص الأخرى، وهذه الروابط (العقد الدلالية) لا يُمكن أن تكون عشوائية، بل يضعها الكاتِب ليدل بها القارئ ــ المُتصفِح على مختلف المسارات النصية المُحتمَلة لبناء معنى نصى.

من ناحية ثانية، إنَ المُشاركين فى عملية الكتابة التفاعلية لا يتشاطرون السياقات الإنتاجية زمنا ومكانا، ولا حتى اجتماعيا أو أكاديميا أو حتى لجهة المستويات المعرفية المُكتسبَة لكل مُنتَج مُتفاعِل... فالحديث عن النص الرقمى يدفعنا إلى تخطى العمل على النص فقط، من خلال العبارات التى تشكله، بل يتعدى ذلك إلى وضْع تصميم للنص، آخذين فى الاعتبار البيئة الرقمية للعبارات بشكلها المُتكامِل من أجل مُلاحظتها ومُراقبتها للتحليل الدلالى، ومن ثمة لدراسة النصوص الرقمية؛ فإنَ فهْم خصوصية السياق الرقمى (الويب والإنترنت) لا يكمن فى أنها مجرد وسيط ناقل للكتابة فقط، ولكن لكونها أيضا بيئة رقمية تكوِن هيكلية الكِتابات بشكلٍ محدَد.

ضرورة البحث عن علوم لغوية ألسنية جديدة
تُسهم الأدوات التقنية إذن فى استحداث المعنى وبنائه. فالمُعالجة النصية الرقمية تُعالج هنا فى نظامٍ مركَب من «كتل» عدة يشكل النص الألفبائى جزءا منها. وإذا كان للتقنيات الرقمية تأثيرٌ فى عملية إنتاج العبارات النصية، وإذا كانت هذه التقنيات محرِكا لتفاعلاتنا خلال استكشاف المعنى وبنائه، فإن ذلك كله سوف يؤدى بالتالى إلى تغيُر فى وحدات المُراقَبة والتحليل.

استطرادا، لم تعُد القدرات اللغوية هى الوحيدة كمَركزٍ للتحكُم المَعرفى، ولكننا نشهد تعدُد «أدوات» المَعرفة فى مَوارد البيئة الرقمية. فالتغيرات التى نجمت عن التقنيات ليست سطحية، ولكنها أثرت فى عملية الإدراك، والتفكير، والتذكر، والتحليل، والتفاعُل؛ هذه الأدوات التقنية، التى يَعتبرها البعض عامِلا نفسيا فى نموذج الإدراك المتنوع، ومدعَمة بإمكانيات مختلفة، تؤثِر فى بناء الخطاب. لذلك، يُمكننا القول إنَ العوامل الخارجية للفكر البشرى أصبحت مدعَمة أو معزَزة بأدوات خارجية. فالوعى حاليا يتجاوز أذهاننا، ونحن نفكر فى «عقول» خارجة عن نطاق جسدنا، ومع عناصر غير بشرية.

إذا، إنَ العمل على النصوص الرقمية ينبغى له أن يتخطى الحاجز اللغوى، فالمُلاحظ فى التحليل أنه لم يعُد مقتصرا على اللغة والمجتمع والثقافة فحسب، بل على التكنولوجيا أيضا. لهذا، فإننا نتحدث عن تكنولوجيا نصية. فالأيقونية على واجهة الحاسوب باتت تشكِل جزءا من الخطاب؛ ومن ذلك على سبيل المثال، أن النقر على زرٍ معين لتحديد أمرٍ ما هو وحدة نصية وتقنية. لذا، أصبحت الأدوات اللغوية والتقنية مُتداخِلة فى مرحلة بناء النص، ولا يتم ذلك إلا بتعاون هذه الأشكال المُختلفة من التعبير المفرداتى ــ النصى والأيقونى.

وإذا ما أردنا تحليل النص وتفسيره لفهمه حاليا، علينا الاعتماد على أدواتٍ تُعالِج النموذج اللاخطى للمُتغير النصى الذى يُعتبر من أهم خصائص التكنولوجيا النصية للنصوص الرقمية على أنواعها، فمنها ما هو صورة للورقى تأتى على نسق «» PDF، أو صورة لنصٍ ما، ومنها ما هو محرَر باستخدام تطبيقات الكتابة، من مثل ««Word، ومنها النصوص المحررة للشبكة باستخدام الـ«» HTML وال XML”» أو غيرها من لغات توصيف الوثائق المُعتمَدة، التى هى بالتالى معايير لأبرز الأنواع النصية المُترابِطة، والتى تتطلب رؤية خاصة لمُعالجتها. فلكل نَوع من هذه الأنواع خصائص معينة تختلف عن الأخرى، شكلا وتصفحا وبُعدا دلاليا، ولكنها فى نهاية المطاف من المُمكن أن تكون مُتداخِلة فى ما بينها.

هذه التصنيفات تؤدى إلى التفتيش عن أدوات لفهْم السِمات اللغوية والخطابية الصادرة فى السياق الرقمى الحالى، أى تداخُل المَناهج المُعتمَدة فى تحليل النصوص، كالمنهج التحليلى والمنهج الوصفى، والمنهج السيمائى، والإحصائى..

أخيرا، السؤال يبقى مفتوحا: ما هى الألسُنة اللغوية التى سنعتمد فهمها وتفسيرها لتحليل النصوص الرقمية؟ فقد تطوَرت الدراسات الألسُنية ونظرياتها، من الألسُنية للكلمة إلى الألسُنية للجملة، ثم إلى الألسُنية النصية وألسُنة المدونات، والآن من المُفترض البحث عن علوم لغوية ألسُنية جديدة تُعالِج وتحلِل النصوص الرقمية المتشعِبة، المُترابِطة والمُتشظية.

النص الأصلى:

التعليقات