نحو إعداد استراتيجية للتنمية للمرحلة المقبلة - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 3:14 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نحو إعداد استراتيجية للتنمية للمرحلة المقبلة

نشر فى : الإثنين 18 مايو 2015 - 8:50 ص | آخر تحديث : الإثنين 18 مايو 2015 - 8:50 ص

تناولنا فى المقالات السابقة العوامل المحددة لبناء استراتيجية للتنمية، آخذين فى الاعتبار طبيعة التطور المقبل الذى يمر به العالم الآن ليخلف الثانى الذى تصدرت فيه القطاعات الثانوية (الصناعات التحويلية) إلى قطاعات ثالثية (الخدمات المتطورة التى أفرزتها الثورة التكنولوجية) وانتقال النشاط البشرى من القاعدة المادية إلى الاعتماد على المعرفة التى تقوم على القدرات الذهنية للإنسان، الأمر الذى يستدعى تنحية المدارس والنظريات القائمة على طبيعة الثروات المادية والقائمة على تراكم سابق والتى تتحكم فيها أسس ملكيتها وتوزيع ما يترتب على استغلالها من عائدات، والاستعاضة عنها بفكر يقوم على صياغة الكيفية التى يؤهل بها الإنسان للإبداع والابتكار، وتحول الفرد إلى منظومة متعددة العلاقات فيتجاوز حدود الدولة التى يعيش فيها، وهو ما يؤدى إلى تغيرات جذرية فى بنيان المجتمع وهياكل الدولة. ويقتضى الأمر التركيز على أنشطة التخطيط الهيكلى ليسايره التخطيط الوظيفى.

ولعل القلق الذى تعانيه مصر عقب ثورة 25 يناير والذى يشيع هواجس النخبة التى التزمت بقواعد الثقافة الموروثة يتحول من نقمة إلى نعمة، لأن الفرصة أصبحت متاحة بدرجة أكبر مما هو متاح لعملية تطور من منطلق يبدو متمتعا باستقرار يولد مقاومة للتغير وفق أوضاع مستقبلية مازالت فى دور التكوين يفضى إليها تغيرات تقود إليها عوامل غير واضحة المعالم. ولعل الشباب الذين أطلقوا شرارة الثورة كانوا مدفوعين بعقل باطن يسعى إلى تغيير يؤهل لهم مستقبلا أفضل لا مجرد تصحيح أوضاع قائمة أصابها البلى. وكما ذكرنا من قبل فإن مثل هذا الوضع ترتب على ثورة 1968 فى فرنسا وغيرها فى دول أخرى، لكن غياب الرؤية المتكاملة لشكل المستقبل المرغوب أتاح للجيل الأكبر فرصة لإدخال رتوش على النظم القائمة لكون تطوره لم يبلغ ذروته بعد، فعاش العالم مرحلة استعمار جديد توحشت فيه الرأسمالية وتمكنت من تقييد حركة النمو فى العالم الثالث ثم إسقاط المعسكر الشيوعى. لذلك لم يكن غريبا أن تكون المجموعة التى قادت الثورة تملك قدرات تتفق ومتطلبات القطاعات الثالثية. وفى اعتقادى أننا بحكم ما نعيشه اليوم أقدر من الدول المستقرة على قيادة مركب الحضارة الإنسانية إلى صيغة طيبة إذا غيرنا أسلوب التعامل مع مفرزات الثورة. وهكذا نستطيع القول إن الحديث عن مفاضلات بين الدولة الدينية والمدنية بصيغة رأسمالية أو اشتراكية لن يقودنا إلى حل ناجع، فالمطلوب هو بناء دولة تواكب التغيرات الحضارية والمشاركة فى صناعتها. وبالتالى فإن المرمى هو بناء الدولة الحضارية بهذا المعنى.

•••

فإذا تم اعتماد هذا المرمى فإن علينا وضع استراتيجية تختار غاياتها على نحو يسرع بنا الخطى نحوه بجانبيها الهيكلى والوظيفى. ويقترح أن تغطى هذه الاستراتيجية خمسة عشر عاما حتى سنة 2030 لكى تختار فى ضوئها أهداف الخطط الخمسية الأولى بما يساعد على استمرار المسار نحو غايات الاستراتيجية.

وبحكم التغيرات المستمرة فى الأوضاع المحلية والعالمية فإن الأمر يقتضى مراجعة الاستراتيجية من حين لآخر إذا ما تأكد أن الأمر يقتضى تعديلها لضمان سلامة وسرعة بلوغ المرمى على أن يجرى ذلك فى أضيق الحدود لتفادى عواقب التقلبات فى مسار التنمية تتسبب فى إهدار الموارد. وبما أن مقاربات التنمية انتقلت من مجرد تنمية اقتصادية واجتماعية إلى تنمية بشرية مستدامة فإن التعامل مع البعدين المتعلقين بشؤون البشر والاستدامة ظلا بمثابة تعديل للمفاهيم التى بنيت عليها التنمية الاقتصادية التى غلب عليها الأساس المادى. فأى نشاط يتمثل فى جهاز يقوم بتعامل مع مدخلات يحولها إلى مخرجات تلبى احتياجات البشر. وتتمثل هذه المدخلات فى مواد أولية أو نصف مصنعة يجرى تحويلها بمعدات وآلات يجرى تشغيلها بمعرفة البشر، ومن ثم فإن المدخل البشرى يجرى إكسابه المهارات اللازمة خارج العملية الانتاجية وفقا لمتطلبات المعدات الإنتاجية، وقد يتم صقلها أثناء ممارستها العمل. أما المخرجات فتكون أساسا منتجات تلبى الحاجات الاستهلاكية وفقا لمستويات المعيشة المختلفة، أو كمدخلات لعمليات إنتاجية تالية أو سلع رأسمالية تزيد من الطاقات الإنتاجية. وتتباين أنصبة الأفراد من المنتجات الاستهلاكية وفق أنصبتهم من الدخول التى يحصلون عليها، وهو ما يترتب عليه تباين مستويات معيشتهم. ومن ثم تتخذ إجراءات لتقليص التباين وتلافى القصور الذى تعانى منه الفئات الأقل دخلا وهى أساسا من العمال، وذلك باتباع سياسات تستهدف تحقيق عدالة اجتماعية نادت بها ثورة 25 يناير. وبوجه عام فإن البعد الاجتماعى يعتبر مكملا لا أصيلا ويُكتفى فيه بمعالجة أضرار تسبب فيها التركيز على الجانب الاقتصادى.

وحتى تصبح التنمية جديرة بأن توصف بأنها بشرية يجب أن تعالج بجهاز إنسانى يتشكل وفق التنظيم الاجتماعى، تحدد مخرجاته نوعية حياة تساهم فى رفع قدرات البشر على الإبداع والابتكار ليساهموا فى الارتقاء بمستوى المجتمع وتعزيز التماسك والتجانس فيما بينهم، من خلال الربط بين المخرجات والمدخلات التى ترتقى من خلال تعزيز المخرجات لقدراتهم الابتكارية. من جهة أخرى فإن الاستدامة ظلت تعتبر الحرص على المواد اللازمة لحياة الأجيال المقبلة بعد أن بات بعضها معرضا للنفاد. وأضيف إليها أخيرا التعامل مع المخاطر البيئية التى نجمت عن أساليب الإنتاج السائدة وأصبحت تهدد حياة البشر. ورغم الاتفاق على إجراءات تقلص مصادر التلوث البيئى فإن الدول المتقدمة وبخاصة الولايات المتحدة ظلت عازفة عن تطبيقها حرصا على تفوقها الصناعى. ويمثل هذا بعدا آخر لابد من أخذه فى الاعتبار نظرا لأنه قد يعرض الأماكن المأهولة للتقلص.

•••

إن معالجة تلك الجوانب تتطلب إنشاء مؤسسات بحثية متخصصة تساهم فى معالجة التهديدات ورفع مستويات المعيشة دون الاعتماد على استيراد ما تفرزه التحديثات التكنولوجية فى مجتمعات أخرى قد لا تكون صالحة لأوضاعنا، خاصة فى ظل ما يردد من فتح الباب لرأس المال الأجنبى بدعوى إدخال تلك التحديثات، فيختار الفعاليات التى تعود عليه بأقصى ربح من تلبية احتياجات الاستهلاك المحلى يسدد له بعملات أجنبية قد يعجز النشاط المحلى عن تدبيرها. وتتوقف مساهمات تلك المؤسسات البحثية على النهوض بمستويات التعليم، الذى تعرض لزيادة الفوارق بين الطبقات وتساهم الجامعات الأجنبية فى ربط النشاط الاقتصادى بالقوى الخارجية. كما أن انتشار فروع لبنوك أجنبية فى ظل الخصخصة يتيح لها فرصة تحويل مسار التنمية عما يلبى متطلبات التنمية المترابطة داخليا، خاصة احتياجات الطبقات محدودة الدخل. وبوجه عام فإن قطاعات الوساطة تتحكم فى توسع الأنشطة اللازمة لتحسين مستويات المعيشة لتلك الطبقات. وأخيرا بحكم ما يتطلبه النشاط الإنتاجى وارتفاع مستويات المعيشة والتزايد السكانى فإن قطاعات الإنشاء والتشييد، وهو ما تعرضت له خطة التنمية الأولى 60ــ1965، استدعت التحول إلى تطبيق تدريجى لنظام اشتراكى من منظور تنموى اجتماعية.

لذلك يجب أن تبدأ الاستراتيجية بإعادة تنظيم المجتمع على نحو ينتقل به إلى وضع يمكنه من الإسراع فى الوصول إلى الغايات المنشودة، ودعم قاعدته وهى الثقافة بتنظيفها وتنظيفها لتفادى التشويه الذى يتسارع فى ظل العولمة. وحتى الآن انصب الاهتمام على الجوانب السياسية والمشكلات الأمنية الداخلية والخارجية. وبدأ أخيرا الاهتمام بالمشاريع الكبرى واسترداد السياحة عافيتها. وقد تتسبب هذه الأنشطة فى تفريغ الأقاليم من الموارد البشرية اللازمة لتنميتها. ولا يجوز التأخر فى تحويل مناطق الدولة إلى الجذب أو الطرد، وهو ما يقتضى تزويد المشرفين على شؤونها بالمعارف اللازمة لحسن إدارتها. وتجب العناية بالمشروعات الصغيرة والمتوسطة، ومساندتها بحضانات تساندها فى النواحى الفنية والإدارية القانونية والمالية. وبقدر النجاح فى الموازنة بين هذه المهام يمكن الإسراع فى بلوغ الغايات المنشودة.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات