طبق الحرب والسلام - داليا شمس - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 9:20 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

طبق الحرب والسلام

نشر فى : السبت 19 يونيو 2021 - 7:35 م | آخر تحديث : السبت 19 يونيو 2021 - 7:35 م

يكفى أن يذكر اسم «رز جولاف» أو أرز الولوف فى غرب أفريقيا حتى يستعر الجدل حول أصل وفصل الطبق الأشهر لدى بلدان هذه المنطقة ووصفات تحضيره. تلمع العيون وتبدأ الحماسة فى الحديث وتظهر حالة تشبه الافتتان. طبق يفرق ويجمع شعوب السنغال وجامبيا وغانا والكاميرون ونيجيريا وسيراليون وليبيريا وموريتانيا، كل طرف يعتقد اعتقادا راسخا أن طريقته فى تحضير هذا الطبق هى الأشهى والألذ، مثلما نتشبث بأكلات أمهاتنا. السنغال تستحضر حقوقها التاريخية وتؤكد أن الأرز المعتمد لهذه الأكلة هو من النوع القصير أو المكسور ويضاف إليه القليل من التمر الهندى أو الليمون الأخضر، فى حين يفضل أهل نيجيريا استخدام الأرز الطويل أما فى غانا فالأرز البسماتى المعطر هو الأنسب، وهكذا دواليك.
لونه غالبا يكون أحمر «مخطوف» لأن الطماطم عنصر أساسى فيه، يضاف إليها البصل والثوم والفليفلة والعديد من التوابل كالجنزبيل والكارى والزعتر، مع الدجاج أو اللحوم أو الأسماك، وبعض الخضراوات مثل البازلاء والجزر وأحيانا الباذنجان والكاسافا بحسب البلد وبحسب الوصفة المتداولة داخل العائلة، فهو ينتمى لثقافة شفهية تتعدد نسخها وتحتمل التنويعات والتأويلات. طبق يشبه البايلا الأسبانية والريزوتو الإيطالى أو بالأحرى البريانى الهندى، وذلك نظرا لـتأثيرات المهاجرين الهنود على القارة السوداء فيما يتعلق بفنون الطبخ، ويسمى أيضا أرز «بينا شيت» أى القِدر الواحد، لأنه على الأغلب يطهى فى وعاء واحد، لكن هذا أيضا يختلف وفقا للبلد.
•••
أعشق الأكلات التى تجعلنا نسافر بعيدا فى الزمان والمكان، ورز الجولاف أو الولوف من هذه النوعية، إذ يرتبط ارتباطا وثيقا بتاريخ دول غرب أفريقيا فى فترة ما قبل الاستعمار وما بعدها. يروى كيف تفرقت القبائل والشعوب بين الدول وكيف ترسمت الحدود وما كان دور المستكشفين البرتغاليين فى أوائل القرن الخامس عشر، إلى ما غير ذلك، فأرز الولوف يحمل اسم مجموعة عرقية تشتت قبائلها بين عدة بلدان.
الولوف شعب ينحدر من إمبراطورية منسية، تفتقر إلى أثر مكتوب يقتفى تطورها التاريخى، قامت ما بين عامى 1350 و1549، فى غرب أفريقيا، وسيطرت على مناطق كثيرة فى السنغال وجامبيا، وكانت موالية لإمبراطورية مالى. فى ذلك الوقت كانت المساحة الممتدة من جامبيا إلى ليبيريا تسمى بساحل الأرز أو الحبوب حيث كانت تنتشر فيها زراعات الأرز والدُخن على ضفاف نهر السنغال. وبالتالى من الطبيعى أن يكون الأرز عنصرا رئيسيا فى الغذاء، وبسبب حركة التجارة ذاع صيت أرز الولوف، كما انتشرت لهجتهم إلى الآن حتى بين من لم ينتموا إلى هذه العرقية فى الأصل. ثم تأتى حكاية الطماطم، العنصر الأساسى الثانى المتفق عليه فى تحضير الطبق، وهى لم تكن معروفة فى غرب أفريقيا قبل الاستعمار البرتغالى والتبادل التجارى مع كولومبيا فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر؛ إذ تعتبر من ثمار العالم الجديد ونشأت بدايةً فى أمريكا الجنوبية. ونظرا للنشاط الذى عرفه نهر السنغال ودوره فى حركة التبادل التجارى، فمن المنطقى أن يتم مزج الطماطم المستوردة بالأرز المحلى لينتج عنهما أرز الولوف الشهير. وتذكر بعض المصادر أن النسخة المعدلة الحالية من الطبق الذى يقدم فى السنغال مع السمك لم تعرف قبل القرن التاسع عشر، وكانت من إبداعات سيدة تنتمى لمدينة سان لويس الساحلية.
•••
وفى سبعينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر كان تشتت قبائل الولوف بين الدول على النحو الحالى على يد الاستعمار الفرنسى الذى أوجد دولة السنغال الموحدة على أنقاض إمبراطورية قديمة، وهو أمر سائد فى القارة الأفريقية حيث نجد القبائل والعرقيات القديمة وقد توزعت بين البلدان، وتظل هناك عادات وموروثات ثقافية عابرة للحدود تذكرنا بوقائع التاريخ من وقت لآخر. ينطبق ذلك على أكلة أرز الولوف التى تشعل حربا ملحمية عرمرمية دون إراقة دماء ودون منتصر أو خاسر، وفى الوقت ذاته تجمع عددا من الشعوب حول الرغبة فى الاستمتاع بوجبة طيبة. لذا أطلق عليها البعض مجازا «طبق الحرب والسلام».
ومنذ العام 2015 صار لطبق أرز الولوف يوم عالمى للاحتفال به يوافق الثانى والعشرين من أغسطس، كما انتشر خارج أفريقيا بشكل كبير فى السنوات الأخيرة وأصبح يقدم فى مطاعم لندن وواشنطن وتورنتو، وصار هناك حديث عن طرحه من خلال بعض متاجر السوبر ماركت كى تزداد شعبيته كما حدث مع أطباق أخرى حول العالم. وهنا يأتى دور التجارة والتجار مجددا، فغالبا يرجع ذلك لوجود عدد كبير من رجال الأعمال الذين ينتمون لقبيلة الولوف فى جميع أنحاء أفريقيا وفى أوروبا وأمريكا، فالولوف لهم سمعة فى التجارة الدولية، وأفريقيا تحظى باهتمام عالمى كبير لأسباب تتعلق بالاقتصاد والطاقة والنفوذ.. كل ذلك يلخصه طبق نلتهمه فى دقائق.

التعليقات