عبيد الوحيدة - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 9:28 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عبيد الوحيدة

نشر فى : الأربعاء 22 أبريل 2009 - 7:20 م | آخر تحديث : الأربعاء 22 أبريل 2009 - 7:20 م

 لا أزال أشعر بالغرابة والفزع والامتعاض كلما رأيت صورة الدودة الشريطية تحت الميكروسكوب. رأس متطاول لمسخ شرير كأنه من كوكب آخر معاد للبشر، تحيط بجوانبه المضغوطة ممصات فاغرة وغائرة كعيون عمياء، ويُتوِّجه إكليل من الكلابات الحادة مثل أنياب متوحشة. ثم تأتى الرقبة، رفيعة ومقززة، يتلوها شريط طويل طويل، يتكون من قطع مفلطحة تصل أحيانا إلى 2000 قطعة، وبكل قطعة جهاز تناسلى مذكر وآخر مؤنث يتيحا للقطع أن تتزاوج فيما بينها، فيتخصب البيض الذى يمتلئ به رحم كل قطعة ناضجة، قرابة 9000 بيضة فى كل رحم، وبكل بيضة جنين مسلح بست شفرات دقيقة، كأنه يولد بلطجيا وقاطع طريق.

تنفصل القطعة الناضجة عن شريط الشر هذا، وتخرج مع فضلات المصاب، ثم تتحلل وينفجر رحمها ناثرا البيض فى محيط واسع، تبتلع الحيوانات الوسيطة البيض مع العشب الملوث، فتخرج الأجنة المسلحة وتشق طريقها مخترقة مَعِدات وبدايات أمعاء هذه الحيوانات، تسير مع الدم وتوغل فى اللحم وتستقر بين أليافه وتتحوصل، وعندما يأكل الناس لحما لم يُطه جيدا لخنزير مصاب أو بقرة مريضة، تغادر الدودة حويصلتها فى أمعائهم الدقيقة، وتكون عندئذ مجرد رأس. رأس بشع يغرس كلاباته فى نسيج الأمعاء، ويثبت نفسه عن طريق الممصات، ومن ثم يتكون العنق، وتبدأ القطع فى الظهور والامتداد.

ولأن هذه الدودة الخنثى بلا جهاز هضمى، فهى تمتص غذاء الإنسان المهضوم عبر جلدها بشراهة، تنمو ويشتد تطفلها، وتطول حتى تصل إلى 12 مترا فى شريطية البقر، و7 أمتار فى شريطية الخنزير.

ولأنها بكل هذا الطول وبكل تلك الشراهة، يندر أن يحمل المصاب بها أكثر من دودة، لهذا تُسمّى «الدودة الوحيدة». وهى بلاء يصيب الناس نتيجة القذارة والفجعة والغفلة، لكن هناك أناسا يتعمدون إصابة أنفسهم بهذه البلاء، وهى حكاية غريبة يرويها الكاتب «ماريو بارغس يوسا «أحد عظماء الرواية الأمريكية اللاتينية، والذى كاد يصل لمنصب الرئاسة فى بلده البيرو، لولا أن العالم لم ينضج بعد ليحكم فيه الأدباء والموسيقيون والفنانون والشعراء.

تقول حكاية «يوسا» إن بعض سيدات القرن التاسع عشر فى أوربا، المذعورات من بدانة أجسادهن، ولكى يستعدن القوام النحيل، كن يبتلعن دودة وحيدة حتى لا يحرمن أنفسهن من أطايب الطعام، ومع ذلك يبقين نحيفات، لأن ما يأكلنه تتغذى به هذه الدودة القابعة فى أمعائهن.

يرى يوسا أن هؤلاء النساء كن بطلات حقيقيات، لأنهن استشهدن من أجل الجمال! وهو ينتقل بالحكاية من هذا الاستنتاج الساخر إلى امتداد جديد لها، ففى بداية عقد الستينيات من القرن العشرين، فى باريس، كان للكاتب صديق إسبانى شاب، رسام وسينمائى، كان يعانى من ابتلاعه المتعمد للدودة الوحيدة، هذه الدودة التى ما إن تستقر فى أحد الأجساد حتى تتحد به، تتغذى عليه، وتنمو وتشتد على حسابه. ومن الصعب جدا طردها من ذلك الجسد الذى تتطفل عليه وتستعمره.

كان الشاب ينحل على الرغم من اضطراره إلى الأكل وشرب السوائل باستمرار (خاصة الحليب)، لكى يهدئ من نهم الحيوان القابع فى أحشائه. صار كل ما يأكله ويشربه ليس من أجل ذوقه ولذته، وإنما من أجل ذوق ولذة الدودة. وفى أحد الأيام بينما كان هذا الشاب المغدور يتبادل الحديث مع الكاتب على أحد المقاهى الباريسية الصغيرة، فاجأ الكاتب باعترافه قائلا: «يا ماريو.. نحن نقوم بأشياء كثيرة معا، نذهب إلى السينما ومعارض الفنون التشكيلية، نتجول فى المكتبات، ونتناقش لساعات وساعات حول السياسة، والكتب، والأفلام، والأصدقاء المشتركين. وأنت تظن بأننى أقوم بكل هذه الأشياء مثلما تقوم بها أنت، لأنك تستمتع بعمل ذلك. ولكنك مخطئ، فأنا أفعل كل ذلك من أجلها، من أجل الدودة الوحيدة. فكل ما فى حياتى الآن لا أعيشه من أجل نفسى، وإنما من أجل هذا الكائن الذى أحمله فى داخلى، والذى لم أعد سوى مجرد عبد له».

هذا الاعتراف المؤلم لعبدالدودة الوحيدة، الذى توهّم أنه يسعى نحو الرشاقة والجمال بينما هو يحمل عبودية القبح فى جوفه، وبرغبته، ألا يوحى بشىء مماثل لكل الذين يتغاضون عن الممارسات القبيحة بوهم الوصول إلى غايات جميلة؟ إنهم كثيرون جدا فى مناخات الاستبداد والفساد وأزمنة الانحطاط، لكن أخطر هؤلاء ليسوا من يبتلعون ديدانهم الوحيدة بأنفسهم لأنفسهم، بل الأخطر هم هؤلاء الذين يريدون تبليعنا ديدانا وحيدة قبيحة بوهم الحصول على جمال ما!

بعضهم يزين لنا قبول دمامة التوريث للحصول على حلاوة حاكم مدنى عصرى منفتح. وبعضهم يريدنا أن نتغاضى عن رداءة بعض الكذابين ماداموا فى المعارضة يرفعون شعارات التغيير والإصلاح. بعضهم يريدنا أن نجيز التسافل والنباح والعض الإعلامى الذى لم يجيدوا غيره بحجة الذود عن الأمن القومى. وبعضهم يطلب منا أن نتناسى مخاطر التسلط باسم الدين لأن حزبا أو جماعة ذات ادعاء دينى تعدنا بالخلاص من تسلط دنيوى لا نحبه. وبعضهم يريدنا أن نفوِّت نهب المال العام وأراضى الدولة ومصادر الطاقة بزعم تشجيع مشاريع الاستثمار لزيادة التنمية وخلق فرص عمل جديدة للفقراء!

دائرة جهنمية من الالتفاف على كل منطق سوى وبديهة واضحة لنبتلع الدودة الوحيدة، بينما الدودة الوحيدة لا تظل وحيدة أبدا، فهى فى حد ذاتها وباء، لا تكف عن الامتداد، وتفجير قنابلها الجرثومية العنقودية فى كل اتجاه، فيتحول الوطن إلى مستعمرة تشغى بهذه الديدان، تمتص البلاد والعباد حتى الرمق الأخير، ولا يتبقى لها إلا أن تموت هى نفسها من هول الموت الذى صنعته، لكن بعد تمام عموم الخراب.

إنها بشاعة ترمى إلى بشاعة، وقبح لا يقود حتما إلاّ إلى قبح.

وقطعا.. لا وصول لغايات نبيلة وجميلة، إلا بوسائل تماثلها فى النبالة والجمال.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .