سلطنة:عبقرية المغمورين: «نوارة حارتنا» لعزت عوض الله - ياسر علوي - بوابة الشروق
الأربعاء 15 مايو 2024 1:04 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سلطنة:عبقرية المغمورين: «نوارة حارتنا» لعزت عوض الله

نشر فى : الخميس 23 يناير 2014 - 5:45 م | آخر تحديث : الخميس 10 أبريل 2014 - 6:43 م

«مركزية» الموسيقى المصرية

1. مصر أقدم دولة مركزية في التاريخ، فيها يقول من يسافر من قريته للقاهرة "أنا رايح مصر"، وتقول اللافتة "طريق مصر - إسكندرية الصحراوي" بدلًا من طريق القاهرة - الإسكندرية الصحراوي، وهكذا.

موسيقيًّا، تكرست هذه المركزية الشديدة بشكل خاص منذ نهاية الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات، مع اندثار الإذاعات الأهلية، وسيطرة الإذاعة الرسمية والسينما على الذوق العام، وباتت القاهرة مقصد كل من يريد أن ينتقل بفنه للجمهور المصري –ومن ثم العربي - الأوسع.

2. رغم ذلك، بقي هناك بحر واسع من المواهب الشعبية التي ارتبطت ببيئاتها المحلية، ولم تتح لها الفرصة لكي تصل للجمهور الأوسع. يمتلئ هذا البحر من الغناء الشعبي بمواهب فذة، وألحان رائعة تستحق أن تسمع على نطاق واسع، لتملأ حياتنا بالبهجة والسلطنة، وتجدد إيماننا بالناس وبقدرتهم على الإبداع. أقدم لكم كنموذج لهذا النوع من الإبداع الشعبي، هذه الأغنية الرائعة "نوارة حارتنا" للفنان السكندري العظيم عزت عوض الله، كلمات أحمد زيادة، لحن منير المليجي (وكلاهما من فناني الإسكندرية)، مقام الكرد.

نواره حارتنا

 

3. والحقيقة أن "الغناء الشعبي" هو تعبير ظلمته وابتذلته، في العقدين الأخيرين بشكل خاص، تجارب سوقية حاولت أن تغطي سوقيتها وهزال كلماتها وألحانها بادعاء أنها "شعبية" وأن "الجمهور عايز كده" (من حمدي باتشان ومسعد القص إلى شعبان عبد الرحيم ومن شابههم). وليست المشكلة فقط في هذا الادعاء ما يضمره من احتقار ضمني للذوق الشعبي، بجعله مرادفًا للسوقية، وإنما فيما يؤدي له من تعمية على كنز موسيقي عظيم من الإبداع الشعبي الأصيل، الذي قصده شاعرنا العظيم فؤاد حداد في قصيدته الشهيرة عن سيد درويش حين قال:

وطلقت حنجرة الفتاة والشاب

ورفعت فني إلى مقام الشعب

لكن ماذا نعني أولًا بالغناء الشعبي الأصيل؟ ما هو هذا الغناء الذي يستحق أن يرتفع إلى مقام الشعب، ليسمى بحق "فنًّا شعبيًّا"؟

ألوان الغناء الشعبي الثلاثة

4. تعبير الغناء الشعبي يشير عادة إلى واحد من ثلاثة ألوان موسيقية، يستحق كل منها تناولًا مستقلًّا (وهو ما سأفعله في مقالات قادمة). هذه الألوان الثلاثة هي:

أ- الغناء الفلكلوري، مجهول المؤلف والملحن، الذي تنتجه بيئات محلية مختلفة في أعمالها وأفراحها ومآتمها (أغاني جمع القطن مثلًا، أغاني الأفراح، أغاني البمبوطية في منطقة القنال...إلخ). ومنذ الخمسينيات، قام الفنان العظيم زكريا الحجاوي بتجربة رائدة لتقديم هذا الكنز الشعبي الكبير لجمهور الإذاعة، ولا زالت هناك الكثير من اللآلئ التي يمتلئ بها هذا البحر الكبير بانتظار من يبحث عنها.

ب- الأغاني القاهرية المستوحاة من الفلكلور، والتي تستلهم هذا الفلكلور وتعيد تقديمه للجمهور الواسع. تحت هذا العنوان يأتي تراث الأغاني الشعبية الشهير الذي أنتج منذ منتصف القرن من ملحنين عظام من طبقة محمود الشريف وأحمد صدقي، لمغنين كبار مثل كارم محمود وعبد الغني السيد ومحمد قنديل، كما يندرج تحت هذا العنوان أيضًا تجربة فريدة في الستينيات للملحن الفذ علي إسماعيل مع فرقة رضا، لإنتاج ألحان مستوحاة من قوالب الغناء الشعبي، غناها محمد العزبي ورقصت عليها فرقة رضا في عصرها الذهبي.

ج- الأغاني المحلية، التي وضعها مؤلفون محليون وغناها مطربون اشتهروا في بيئاتهم المحلية، وأدوها عادة في الأفراح الشعبية، ووصل بعضهم للإذاعات المحلية (صوت الإسكندرية مثلًا)، ولكن لم يتح لأكثرهم الوصول للجمهور القاهري، ومنه إلى سائر أنحاء مصر والوطن العربي. إلى هذا النوع الأخير تنتمي أغاني الفنان السكندري عزت عوض الله.

«نوارة حارتنا» حالة حب «بسيطة»

5. اشتهرت أغنية «نوارة حارتنا» في الإسكندرية في الستينيات، وكانت تؤدى أساسًا في الأفراح الشعبية، وفي بعض الحفلات الموسيقية التي أحياها المطرب والملحن السكندري الموهوب عزت عوض الله في الإسكندرية، كما كانت تبث في إذاعة الإسكندرية. الكلمات بسيطة وتتناسب مع أجواء الأفراح، تعكس حالة حب بسيطة "للجارة الجميلة" الساكنة في نفس حارة المحب الولهان، وهي صورة شائعة جدًّا في ثقافتنا الشعبية لعلاقات الحب الأول الذي يكون عادة من نصيب "ابنة الجيران"، فيطلب المحب منها الوصال والقرب (وفي حالة هذه الأغنية بالذات، يتمنى القرب بالمعنى الحرفي في صورة شعرية طريفة ومبتكرة، فيحلم بأن يكون بيتها ملاصقًا لبيته!!).

6. الكلمات شديدة البساطة والعذوبة كما قلنا، مصاغة في قالب الطقطوقة، وهو كما قلنا في مقال الأسبوع الماضي، القالب الأكثر شيوعًا في الموسيقى المصرية منذ الثلاثينيات. تتكون الطقطوقة من مذهب هو عبارة 4 شطور كلها بنفس الوزن والقافية (نوارة حارتنا/ يا مزود حيرتنا/ يا ريت يبقى بيتكم/ بابه جنب بيتنا).

وبالإضافة للمذهب، هناك 4 أغصان (كوبليهات باللغة الدارجة) كلها ملحنة بنفس اللحن، ويتكون كل غصن منها من قسمين: القسم الأول مربع بقافية موحدة للشطر الأول والثاني والرابع مع قافية منفصلة للشطر الثالث (نفس الطريقة التي استخدمها صلاح جاهين في رباعياته الشهيرة) ثم يختتم كل مربع ببيتين يتكرران في نهاية كل كوبليه هما: حلفتك يا جاري/ خللي الود جاري.. ولا عمرك تفوتنا/ يا ساكن حارتنا.

7. المربعات التي تشكل الكوبليهات شديدة البساطة والغنائية في نفس الوقت، تستخدم لعبة مفضلة في الأغاني والمواويل الشعبية، وهي اللعب على الجناس الكامل والألفاظ التي تنطق بنفس الطريقة، ولكن معناها يختلف في كل مرة. هكذا نجد مثلًا: جمالك ربي خالقه/ نور يهديه لخلقه، أو طبع الحسن عندك/ بينسينا عندك، أو حلفتك يا جاري/ خلي الود جاري وهكذا.

يؤدي هذا لإكساب الكلمات طابعًا غنائيًّا واضحًا، يسهل على المستمع حفظ الأغنية واسترجاعها، وهي مسألة تكتسب ضرورة قصوى في الأغاني الشعبية التي لا تجد طريقها للإذاعة والتليفزيون، ومن ثم يعتمد انتشارها بالأساس على قدرتها على الوصول للجمهور وقدرة هذا الجمهور على حفظها وترديدها.

8. أما بالنسبة للحن، فهناك بشكل عام طريقتان لتلحين الطقطوقة. الطريقة التقليدية، وتقوم على تلحين كل الأغصان/ الكوبليهات بنفس اللحن، على أن يعاد المذهب بين كل كوبليه. هذه هي الطريقة التي اتبعها سيد درويش في طقاطيقه الشهيرة (أهو ده اللي صار، وخفيف الروح، وسالمة يا سلامة) واستخدمها أيضًا كل من داود حسني (قمر له ليالي) وفريد الأطرش (نورا نورا/ الحياة حلوة/ يا عوازل فلفلوا). وهناك الطريقة الحديثة التي ابتدعها زكريا أحمد، وتقوم على تلحين كل كوبليه بلحن مختلف، بما يتيح للملحن مساحة للتنويع (مثال: يا حلاوة الدنيا، وغني لي شوي). وهناك ملحنون مثل عبد الوهاب استخدموا الطريقتين، فنجد مثلًا طقطوقة خايف أقول اللي في قلبي مصاغة بالطريقة التقليدية (كل الأغصان بلحن واحد) بينما طقطوقة (إمتى الزمان يسمح يا جميل) مصاغة بالطريقة الحديثة (لكل كوبليه لحن مختلف).

9. على أية حال، هذه الأغنية "نوارة حارتنا" تختار الطريقة التقليدية. فيبدأ اللحن بجملة موسيقية راقصة تؤدى بالكمانجات والرق من مقام الكرد، ثم يؤدي المطرب المذهب من مقام الكرد. لا يوجد أي تعقيد هنا، بل جمل لحنية بسيطة وشجية ومصممة بشكل يسهل حفظه وترديده، على لحن راقص يناسب أجواء الفرح التي تؤد فيها الكلمات.

ثم ينتقل الملحن إلى مقام الراست في كل كوبليه، ويبقى في هذا المقام حتى الجملة الأخيرة من التسليمة (البيتين الأخيرين من أول حلفتك يا جاري، والتي "يسلمنا" بها الملحن إلى المذهب بعد كل كوبليه، ومن هنا جاءت تسمية "التسليمة"). عندئذ، يعود الملحن في جملة "ولا عمرك تفوتنا/ يا ساكن حارتنا" إلى مقام الكرد مجددًا، "ليسلمنا" إلى المذهب الذي يتكرر غناؤه بين كل كوبليه.

10. الأداء المتمكن والصوت العذب للمطرب السكندري القدير عزت عوض الله - بديع بشكل يفوق الوصف. مزيج رائع من الشجن الذي تستوجبه حالة الوجد والشوق التي تصفها الكلمات لمحب يشتاق لمحبوبته، ولا يكتفي بمجرد الجيرة معها في نفس الحارة، وإنما يتمنى أن يلتصق بيتاهما، هذا الشجن ممزوج في أداء عزت عوض الله برشاقة تناسب الطابع الراقص للحن، بما أنه لحن يؤدى أساسًا في الأفراح الشعبية.

11. عزت عوض الله ليس مطربًا عظيمًا وحسب، كما يتضح من سماع هذا اللحن، وإنما هو فنان شعبي بالمعنى الدقيق للكلمة، عامل تليفونات في الإسكندرية، يهوى الغناء ويعشقه، وترتبط حياته وأغانيه بشكل كامل ببيئته المحلية (من أول عمله طوال حياته في مصلحة التليفونات، إلى عشقه للنادي الأوليمبي لكرة القدم، وغنائه أغنية "يا أوليمباوية" عندما فاز ناديه بالدوري العام للمرة الوحيدة في تاريخه)، اسمه الأصلي "مرقص عوض الله"، وكان من نجوم الغناء المحلي في الإسكندرية (مع مطربين محليين ممتازين مثل الرائعة بدرية السيد، التي تستحق عودة مستفيضة لها في المستقبل)، كما كان ملحنًا موهوبًا، وضع ألحانًا شديدة الروعة، من أجملها في نظري لحنه الجميل "يا زايد في الحلاوة"، مقام نهاوند، وأرفق هنا تسجيلًا بديعًا له على العود بصوت المطرب العظيم فايد محمد فايد في حفلة يؤدي فيها الجمهور السكندري دور الكورس في حالة سلطنة نادرة (عمومًا، سأعود للمطرب الكبير فايد محمد فايد في المستقبل، فهو نموذج آخر على عبقرية المغمورين وإبداعهم).

لسوء الحظ توفي عزت عوض الله مبكرًا، وعمره لم يتجاوز 41 سنة، فمات قبل أن تفتح له أبواب شهرة أوسع من الإسكندرية. فعاش هذا الموهوب مغمورًا ومات مغمورًا.

"اسمعوا واستمتعوا"

12. عزت عوض الله نموذج على مساحات الإبداع الرهيبة في إرث الموسيقى المصرية – والعربية بشكل عام - التي أنتجها موهوبون مغمورون، لم تفتح لهم أبواب الشهرة التي يستحقونها، ولكنهم أبدعوا تحفًا موسيقية تستحق أن تسمع بإمعان، وأن تملأ حياتنا بالبهجة والجمال والأمل الذي لا ينضب في الناس "العاديين"، والتفاؤل بطاقات الإبداع العظيمة في فننا الشعبي الأصيل.

استمتعوا وتسلطنوا! وعسى أن يكون هذا اللحن بابًا للولوج إلى العالم الساحر للغناء الشعبي، الجدير حقًّا بهذه التسمية، والتعرف على المزيد من العباقرة المغمورين.

ياسر علوي  كاتب وأكاديمي مصري
التعليقات