سعاد حسني تغني المعركة: دولا مين – ما أخذ بالقوة - ياسر علوي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 6:57 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سعاد حسني تغني المعركة: دولا مين – ما أخذ بالقوة

نشر فى : الأربعاء 6 أكتوبر 2021 - 11:45 ص | آخر تحديث : الأربعاء 6 أكتوبر 2021 - 1:31 م

لسعاد حسني في قلوب جمهورها مكانٌ شديدُ الخصوصية، لم يحظ به فنان آخر. ربما كان السببُ موهبتَها العظيمةً تمثيلاً وغناءً ورقصاً، وربما كان المفارقةً الرهيبةَ ين حضورِها على الشاشةِ كأيقونةٍ للجمالِ والبهجةِ على مدارِ ثلاثةِ عقود (منذ ظهورِها الأول سنة 1959 في فيلم حسن ونعيمة وحتى اطلالتِها الأخيرة في الراعي والنساء عام 1991)، وبين نهايتِها الكئيبة. 

أضف لذلك امتلاكها للتوليفة الذهبيةِ بين موهبةٍ خارقة، وخفةِ ظلٍ حقيقية، وجمالٍ استثنائي وجريء، كاد يجعلُها وجهاً سينمائياً للموجة الثانية من موجات تحرر المرأة المصرية في القرن العشرين (التي تلت في الخمسينات والستينات، الموجة الأولى في مرحلة ما بين الحربين العالميتين). 

يظهرُ ذلك في المسحةِ التحرريةِ، بل وأحيانا النسوية في عددٍ من أفلامِها (انظر بشكلٍ خاص فيلم "خللي بالك من زوزو" الذي قدمَ ما يُمكن اعتبارُه "طبعةُ نسويةُ" لقصةِ سندريلا، لا تنتظر فيها البطلةُ "المغلوبة على أمرِها" المخلصَ الذي سينقذها من بؤسِ اضطهادِها، وإنما تشاغِله هي وتبادِره بالغرام.. فالدنيا تؤخذ "كدهُ"!! بحسب ترجمة "زوزو" الحركية، لبيت شوقي الشهير "وما نيلُ المطالبِ بالتمني/ ولكن تؤُخذُ الدنيا غِلابا"). 

بالمقابل، تقاطعت النهايةُ المأسويةُ لسعاد حسني (الإصابة التي فرضت الاعتزالَ المبكرَ والمنفى منذ نهاية الثمانينات، ثم الوفاة في 2001)، مع المدِ المحافظ منذ مطلع الثمانينات الذي أنهى الموجةَ التحرريةَ الثانية للمرأة المصرية (بالتوازي مع النقلةِ السينمائية من "مراتي مدير عام" و"للرجال فقط"، إلى "تيمور وشفيقة"!!). 

سينما سعاد حسني: التجاري والطليعي

 -2-

سينمائياً، راوحت سعاد حسني في أفلامِها (82 فيلما) بين الكوميديا الخفيفة (مثال: عائلة زيزي)، والأفلام الغنائية (صغيرة على الحب)، التي كانت سعاد حسني نجمةَ موجتِها الثالثة في السينما المصرية. 

فبعد الموجة الأولى في الأربعينات، والتي سيطر عليها فريد الأطرش من جهة وليلى مراد من جهةٍ أخرى، وموجة محمد فوزي/شادية/عبد الحليم حافظ في الخمسينات ومطلع الستينات، جاءت الموجة ُ الثالثة –والأخيرة في القرن العشرين- في عقدِ السبعينات وكانت سعاد حسني المعلمَ الأهمَ لها برباعيتها الذهبية مع صلاح جاهين (زوزو، أميرة حبي أنا، شفيقة ومتولي، المتوحشة). 

على أن لرصيدِ سعاد حسني السينمائي جانب آخر، يتمثل في الأفلامِ الهامةِ –والطليعية- في تاريخ السينما المصرية التي قامت ببطولتها، من الاختيار لشفيقة ومتولي مرورا بالزوجة الثانية والقاهرة 30 وغيرها من العلامات في تاريخ السينما المصرية، وصولا لأفلامها التجريبيةِ في الثمانينات (مثال: الفيلم البديع فنياً والمظلوم جماهيرياً: الدرجة الثالثة). 

هذا الحضورُ القويُ في الأفلامِ الجديةِ، "والسينما الطليعية"، لافتٌ ليس فقط كخطٍ موازٍ لأعمالِها الكوميديةِ والاستعراضيةِ الخفيفة، وإنما لكونه يمثلُ اختياراتٍ فنيةً صعبةً، تعكسُ ثقافةً ووعياً استثنائياً من شخصٍ لم يُتح له أي تعليمٍ نظامي على الإطلاق (لا مدارس ولا جامعة)!!

وهذه، على أيةِ حالٍ، ظاهرةٌ عرفتها مصرُ في القرن العشرين: الفنانُ الذي لم يُحَصِّل تعليماً نظامياً، لكنه يقوم باختياراتٍ فنيةً تتطلبُ تكويناً ووعياً ثقافياً، يكون مصدرُه رعايةً فنيةً وعلاقةً وطيدةً تربطُ هذهِ الموهبةَ بمثقفٍ آخر يدعمُها ثقافياً ويساعدُ في بلورةِ اختياراتِها وتدريبِ ذائقتِها. 

النماذجُ عديدةٌ. من علاقةِ أم كلثوم برامي، لعلاقة عبد الوهاب بشوقي، وعبد الحليم حافظ بصلاح جاهين وكمال الطويل ..الخ. سعاد حسني نموذجٌ آخرٌ لهذه الظاهرة، عبر علاقتِها بثلاثةٍ من كبارِ المثقفين الفنانين في مصر، مكتشفُها عبد الرحمن الخميسي، وراعيها صلاح جاهين، وملحنُها كمال الطويل.  

سعاد حسني مغنية 

 -3-

جانبٌ آخر في هذه الموهبةِ الفذةِ هو قدراتُها الغنائية الممتازة. والطريفُ، أن "الظهورَ الفني الأول" لسعاد حسني كان ظهوراً غنائياً، حيث غنت كطفلةٍ عمرُها أقل من 5 سنوات في برنامجٍ إذاعي للأطفال يقدمُه "بابا شارو". لكننا في هذا المقال نتحدثُ بطبيعةِ الحال عن غنائِها بعد أن احترفت التمثيلَ عام 1959. 

قدمت سعاد حسني عدداً من أشهر الأغاني السينمائيةِ المصرية، وتعاملت مع خمسة ملحنين، هم كمال الطويل (أكثر من لحن لها) وسيد مكاوي (3 ألحان) ومحمد الموجي (3 ألحان)، وابراهيم رجب (لحن وحيد هو الاستعراض الرائع "لا" في فيلم خللي بالك من زوزو)، وعمار الشريعي (أغاني مسلسل هو وهي).  

تنوعت هذه الأغاني بين اللونِ الاستعراضي الخفيف (مثال: خدنا أجازة، بمبي)، وبين الأغاني المركبة لحنيا والتي تتطلبُ قدرةً صوتيةً لا يستهانُ بها وتدريباً وإتقاناً لفنون الغناء العربي –القفلات، والنقلات المقامية...الخ- مثل أوبريت صغيرة على الحب من ألحان محمد الموجي(بأجوائه المختلفة، ونقلاتِه المقاميةِ العديدة)، وأغنيتي بانو والدنيا ربيع لكمال الطويل (وفي الأغنيتين تنوعٌ مقاميٌ وقفلاتٌ تحتاجُ لصوتٍ قادرٍ على الغناء، وليس "مَؤدٍ" فقط، بحسب التعبير الشائع الذي يُستخدم عادة لتبريرِ غناءِ من لا غناءَ له!!). 

نفسُ التنوعِ نجدُه في ألحان عمار الشريعي لها في مسلسل هو وهي. وأخيراً، هناك التجربةُ الكاشفةُ لقدراتِها الصوتية والأدائية، والمتمثلة في غناءِ مسامعٍ من أوبريت شهوزاد (هذا بالمناسبة هو اسم الأوبريت عند ظهورِه، وقد حُرِّفَ لاحقاً لاسم "شهرزاد" بعد مشكلاتٍ خلقها الاسمُ الأولُ الذي اتُهم بالإسقاطِ سياسياً على عهد الملك فؤاد وقتها) وأغانٍ آخرى لسيد درويش في فيلم "أميرة حبي أنا". 

أما خارج أغاني الأفلام والمسلسلات، فلم تغن سعاد حسني سوى أغنيتين وطنيتين. الأولى هي "دولا مين" من كلمات أحمد فؤاد نجم وألحان كمال الطويل، والثانية هي "ما أخذ بالقوة" من كلمات صلاح جاهين وألحان سيد مكاوي. 

الأغنيتان من مقام العجم، وقد غُنيتا بمناسبة نصر أكتوبر 1973. وسنقتصرُ اليوم على هاتين الأغنيتين، مع وعدٍ بالعودة لأغاني سعاد حسني الاستعراضيةِ في مقالٍ قادم. 

 دولا مين: الغناء "للدُفعة" صانع الانتصار 

   -4-

 

الكلمات لأحمد فؤاد نجم، أشهر شعراءِ "الاحتجاج" في مصر. وكانت حربُ أكتوبر قد أتاحت نافذةً نادرةً لظهورِ شعراءِ "الاحتجاج" في الإعلامِ الرسمي، فتم وقتها مثلاً استدعاءُ شاعرِ جيل السبعينات العظيمِ زين العابدين فؤاد – المجند وقتها على جبهةِ المعركة – لإلقاءِ قصيدتِه الشهيرة "الفلاحين بيغيروا الكتاني بالكاكي" في حفلٍ تليفزيونيٍ بعد أولِ وقفٍ لإطلاقِ النارِ، بحضورِ قرينةِ رئيسِ الجمهوريةِ وقتها السيدة جيهان السادات، التي لم يعجبُها الختامَ الحماسيَ للقصيدةِ "من أول بيت: اتفجري يا مصر/اتفجري بالحرب ينطلق النهار"، والذي لا يتناسب مع فكرةِ "آخرِ الحروب" التي تبناها الرئيسُ الراحلُ أنور السادات وقتَها، فكان هذا هو الظهورُ الإعلاميُ الأول والأخير طوال تلك المرحلة لزين العابدين فؤاد. 

لنفس المناسبة، أتيح لأحدِ أعمالِ أحمد فؤاد نجم أن تغنيه سعاد حسني، بلحنٍ مبدعٍ لكمال الطويل وتوزيعِ العبقري علي اسماعيل. 

ويتمثل القاسمُ المشتركُ بين هاتين الإطلالتين "للشعر الاحتجاجي" في حربِ أكتوبر، في كون مركز الاحتفاءِ في القصيدتين هو "الدُفعَة"(لفظٌ يقالُ في مصرَ للجندي المجندِ من كلِ من يشاهدُه بالزيِ العسكريِ ولكنه يجهلُ اسمَه). 

فهذا الجنديُ (الفلاحُ الذي استبدل جلبابه "الكتاني" بالزي العسكري "الكاكي" في قصيدةِ زين العابدين فؤاد، أو"ابن الفلاح" في قصيدة نجم) هو زارعُ الأرضِ ومُحَرِّرُها، يعيشُ مجهولاً ويستشهدُ مجهولاً (فلا نعرِفُه إلا "كدفعة") ولكنَه هو بطلُ المعركةِ ومحررُ الوطن. 

ولأن هذا "الدفعةَ" المجهولَ هو مناطُ الاحتفاءِ، كان منطقياً أن تبدأ الأغنية بسؤال "دولا مين" (فنحن نرى الجنود/الفلاحين يعبرون ويحررون ويستشهدون، ولا نعرفُ أسماءهم)، ويرد المذهب على السؤال مرتين: في المرة الأولى يرد بأن هؤلاء عساكر مصريون، ثم يستطردُ لاحقاً ليوضحَ أنهم أبناء الفلاحين. يشكل السؤال المتكرر مرتين وجوابه كل مرة، مذهب الأغنية المصاغ في صورة رباعية يتطابق شطرها الأول والثالث تطابقا كاملا، وتتطابق قوافي الشطرين الثاني والرابع.

يلي ذلك أربعةُ كوبليهات، جميعُها مصاغةٌ في صورةِ رباعياتٍ تتطابق قوافي شطورِها الأول والثاني والثالث، ثم تعود قافيةُ الشطرِ الرابعِ إلى التطابقِ مع قافيةِ المذهب. فنجدُ في الكوبليه الأول مثلا (البلدي/بلدي/ولدي ثم المصريين المتطابقة مع قافية دولا مين)، والثاني (العز/يعز/هِز ثم جايين)، وهكذا. ويتكرر أداء المذهب بعد كل كوبليه. 

من حيث المضمون، للكوبليهات كلها غرضٌ وحيدٌ هو تثبيتُ فكرةِ الاحتفاءِ بالمجندين (أدنى رتب المقاتلين)، فنحن سنسيرُ بالملايين وراءَ "الدفعة" الذي سيهزُ الهلال (استعارةٌ تقليدية تُشيرُ لاستقدامِ العيدِ، ومنها أغنيةُ سيد درويش الشهيرة في ثورة 1919 "هِز الهلالَ يا سيد") ويقودُ –هو، أي "الدفعة" ابن الفلاح، وليس أي "زعيمٍ تاريخيٍ"- المسيرةَ، وتستخدمُ القصيدةُ لتثبيتِ هذا المعنى إشاراتٍ من التراثِ الشعبي المصري من أول "هَزِ الهلال" وحتى "عودة بهية لأحضان ياسين"، وهي استعارةٌ مزدوجة تحيلُ من ناحيةٍ للملحمةِ الشعبيةِ الشهيرةِ، وتستخدمُ من ناحيةٍ أخرى الكنايةَ الشهيرةَ عن مِصرَ (بوصفِها "بهية"). 

قالبُ الرباعياتِ القائمةِ على شطورٍ قصيرةٍ (لا يزيدُ كلُ شطرٍ عن 3 أو 4 كلمات) يُضفي طابعاً غنائياً على الكلماتِ –بسبب الجرسِ الصاخبِ بين القوافي المتطابقةِ والمتتاليةِ- بالإضافةِ إلى تثبيتِه الفكرةِ البسيطةِ والتقدميةِ (الاحتفاء بالدفعة صانعِ الانتصارِ، فالنصرُ يُصنَع من "أسفل" بجهودِ "الدفعة"، وليس نتاجَ عبقريةٍ "نابليونية" خارقةٍ جاءت من فوق رءوس أولاد الفلاحين)، عبرَ تكرارِها بصياغاتٍ مختلفةٍ في كل كوبليه.  

تبقى ملحوظةٌ أخيرةٌ بشأنِ الكلمات: فنتيجةُ لكون الأغنية مذاعة في الإعلامِ الرسمي، تم تعديلُ كلماتِ القصيدةِ لتلائمُ الذوقَ الأكثر محافظةً للجمهورِ الأوسع لوسائلِ الإعلامِ الرسمية. هكذا، تغيرَ مطلعُ الكوبليه الثاني من "دولا القوة ودولا العِز، دول راضعين من أطهر بِز" في النص الأصلي للقصيدة، إلى "دولا القوة ودولا العز، يِهدوا الغالي مهما يعِز". هذا التغييرُ أفقدنا برأيي صورةً أكثر شعبيةً وحميميةً، يشيعُ استخدامُها بغرضِ المديحِ في مناطقِ مصرَ الشعبية، حيث يعيش الدفعة، ولكنَه جعلَهاأكثرَ ملاءمةُ لذوقِ الطبقةِ الوسطى –المستهلكُ الأهم في نظرِ الإعلام الرسميِ. وبالمناسبة، هناك لحن آخر غناه الشيخ إمام عيسى (تؤأم أحمد فؤاد نجم الفني) لنفس الكلمات، بصيغتها الأصلية، وهذا رابطه للمهتمين.

 

  

-5-

نأتي للحن أغنية سعاد حسني، وهو لأهمِ ملحنيِ الأغنيةِ الوطنيةِ المصريةِ في النصف الثاني من القرنِ العشرين، العبقري كمال الطويل. لمناسبةِ نصرِ أكتوبر 1973، وضع كمال الطويل ثلاثةً ألحانٍ (الباقي هو الشعب من كلمات سيد حجاب وغناء عفاف راضي، خللي السلاح صاحي من كلمات أحمد شفيق كامل وغناء عبد الحليم حافظ، ودولا مين لسعاد حسني). 

وبخلاف اللحنين الأولين الذين صيغا في قالب النشيد، جاء لحنُ كمال الطويل لسعاد حسني احتفالياً وبإيقاعٍ راقص، يعززُ فكرةَ البهجةِ بانتصاراتِ "أولاد الفلاحين"، ويتواصلُ معهم بتيماتٍ لحنيةٍ راقصةٍ وشعبيةٍ وسلسة، ليس بها أيُ "فوقية" أو تعقيد قد يجعلُ اللحنَ نخبوياً ومناقضاً لكلماتِه التي تحتفي "بالدفعة" وانتصاراتِه. فكمال الطويل ملحنٌ يفكرُ بعقلِه قبلَ أن يبدعُ بوجدانِه. 

اللحنُ مصاغٌ من مقامِ العجم، وهو مقامٌ حاضرٌ بقوةٍ في الأغاني الوطنية المصرية، منذ أن استخدمه فنانُ الشعب سيد درويش في أناشيدِ ثورة 1919 (قوم يا مصري، وبلادي بلادي). أما الجملُ اللحنية فسهلةٌ ولكنها بديعةً، والتنويعاتُ فيها لا تأتي من خلالِ نقلاتٍ مقاميةٍ معقدةٍ تنقلنا من حالةٍ وجدانيةٍ لأخرى، وإنما تأتي في صورةِ تنويعاتٍ صغيرةٍ تتفرعُ بشكلٍ بسيطٍ عن الجملِ اللحنيةِ الأساسيةِ (على طريقة معمار الأرابيسك مثلا، الذي يقوم على تفريعات ضئيلة عن التيمة الأساسية للتصميم، وهي بالمناسبة نفس طريقة البناء الدرامي لقصص ألف ليلة وليلة أيضاً). 

هكذا مثلا نجد في المذهب جملة "دولا مين ودولا مين" تقالُ أولاً بصورة استفهامية واضحة، ثم تعاد بإضافة "عُرْبَة" –أي تنويعة قصيرة- داخل نفس المقام، فتقال في المرة الثانية "دولا مين، ودولا دولا مين". ونحن لا نخرجُ في هذه العُربة، وبل طوال المذهب كله، عن مقامِ العجم. لماذا؟

لأن المطلوبَ هو الإبقاءُ على بساطةِ الجملةِ، التي يُفترضُ أن سعاد حسني ترددُها مع أطفالٍ، وأن يرددُها لاحقاً جمهورُ السميعةِ معهم، وجميعُهم –أطفالُ الكورال والسميعة– لا يُعقَلُ أن تُفترضَ فيهم القدرةُ على ملاحقةِ النقلاتِ المقاميةِ المعقدةِ. مرة أخرى، نحن أمام ملحن يسيطر بعقله على اللحن، ويعي تماماً ما يفعل، ويتعامل مع المقامات الموسيقية بوصفها أدوات للتعبير الموسيقي لنقل شحناتٍ وجدانيةٍ معينة، وليس بوصفها مرتعاً لشطحاتِ خيالٍ جامحٍ لا تحكمه سوى اعتبارات التطريب. 

ونستمرُ بنفس التكتيك –ثباتٌ في نفسِ المقام، وتنويعاتٌ صغيرةٌ على الجملِ الموسيقيةِ الأساسيةِ، تنزعُ عنها الرتابةَ، ولكن بدون أن تٌفسد بساطتَها– في الكوبليه الأول، ثم تحدُث نقلة مقامية وحيدة بِدءا من الكوبليه الثاني (دولا القوة ودولا العز) إلى مقام النهاوند الذي يبدأ به الشطر الأول والثاني في الكوبليه، ثم نعود اعتباراً من الشطر الثالث (هز يا دفعة هلالك هز) إلى العجم. 

وتتكررُ نفس اللعبة في الكوبليهين الثالث والرابع، لكن اللافتَ هنا هو أن الحالةَ الوجدانيةَ تتغيرُ تماماً بين (دولا القوة ودولا العز) وبين (دولا يا سينا ولاد الشهداء) رغم بقائنا في نفسِ المقام (النهاوند). هذا يعكسُ أولاً قدرةَ الملحنِ على استخراجِ حالاتٍ وجدانيةٍ متنوعةٍ من نفسِ المقام، ويعكسُ ثانياً قدرة سعاد حسني على نقلِ هذه الحالاتِ الوجدانيةِ المتباينةِ بعذوبةٍ شديدةٍ وسلاسةٍ

مقتدرة. 

فنحنُ لسنا فقط أمامَ صوتٍ جميل (لا يخلو من تشابهٍ مع صوتِ شقيقتِها الفنانة القديرة نجاة الصغيرة، ويظهر ذلك بشكلٍ خاص في هذه الأغنية في كوبليه دولا يا سينا ولاد الشهدا، ولكن هذا التشابهَ يُمكن رصدُه بوضوحٍ أكبر في أغانٍ أخرى لسعاد حسني مثل جملة "بقى هي الدنيا كده" في أوبريت صغيرة على الحب، أو في مقطع "البوري بينده لك" من أوبريت شهرزاد في فيلم أميرة حبي أنا). 

صوتُ سعاد حسني يُغني بدقة، ويؤدي النقلةَ المقاميةَ بسلاسةٍ (فلا يشعرُ بها المستمع)، ويجيدُ القفلات (= العودة من النهاوند للعجم)، ولكنه أيضا صوتٌ "يُمثل" ما يقول. قارنوا مثلا بين نبرتِها المبتهجةِ في المذهب، القويةِ والمزهوةِ في كوبليه "دولا القوة ودولا العز"، الحزينةِ في "دولا التار لا ينام ولا يهدى" ثم الانتقال المفاجئ لحالةٍ فرحةٍ في جملةِ "طول ما بهية في حضن ياسين" في نفس الكوبليه. هذه قدراتٌ تحتاجُ لممثلٍ، يعبرُ عن المعنى، وليس فقط لمغنٍ يؤدي جملاً موسيقيةً أداءً سليماً. شيءٌ رائعٌ. 

آخر ملاحظة لي على الأغنيةِ تتعلقُ بالتوزيعِ البديعِ لعلي اسماعيل، من استخدامِ كورالِ الأطفال لتأكيد جوِ البهجةِ بالانتصارِ، إلى استخدامِ تقنيةٍ شاعت في السبعينات وهي "تكرار الصوت" Doubling. فنحن نسمعُ في التسجيلِ صوتَ "سعادات حسنيات" وليس "سعاد حسني واحدة". 

هذه التقنيةُ هنا تؤدي وظيفةً جماليةً تتمثلُ في إعطاءِ طابعٍ حماسيٍ أكبرَ للأغنيةِ يناسبُ طابعَها الوطني، فنحن لسنا أمام صوليست تؤدي وكورال أطفال يرد عليها، وإنما أمام كورال يؤدي المذهبُ والكوبليهات (مكون من صوت سعاد حسني بعد تكراره) وكورالٌ آخرٌ من الأطفال يرد عليه في المذهب. يعني أننا أمام "حوارٍ بين كورالين"، وهذه في ظني أولُ تجربةٍ في الموسيقى المصريةِ لاستخدامِ حيلةِ "الحوارِ بين كورالين" (وقد تكررت لاحقاً في أغاني الأطفال التي لحنها عمار الشريعي لعفاف راضي في مطلع الثمانيات، مثل "سوسة" و"هوبا طيري فوق"). 

ما أخذ بالقوة: أغنية على مرحلتين؟ 

-6-

الأغنيةُ الثانيةُ التي نستمعُ لها اليوم، نادرةٌ بكلِ معاني الكلمة. فهي أولاً عملٌ غيرُ معروفٍ للثلاثي: صلاح جاهين/سيد مكاوي/ سعاد حسني، تبدأُ وتنتهي في مقام العجم، ومصاغةٌ في قالبِ الأغنيةِ الوطنيةِ الشعبيةِ بإيقاعٍ راقص، والذي ابتدَعه سيد درويش بعد ثورة 1919. ثم إنها رُبما تكونُ أولُ أغنيةٍ صوِرت سينمائياً دونَ أن تكون جزءا من فيلم او تمثيلية، فيمكن اعتبارها من مقدمات "الفيديو كليب" (الإخراج لحسين كمال). 

اللحنُ راقصٌ وشعبيٌ، وبه كلُ قدراتِ العبقريِ سيد مكاوي على الانتقالِ في نفسٍ واحدٍ من جملةٍ راقصةٍ (نفوق بقى والنبي ونصحصح) إلى الهتاف في وسط الكوبليه ("عدوك شضلي بيبطح") دون أن يؤدي ذلك لأي "نشاز" في اللحن (وهي حيلةٌ ابتدعها سيد درويش في صيحة "يا ساتر" وسط أغنية الشيطان في مسرحية "البروكة"، ويستوحيها هنا تلميذُه سيد مكاوي بمنتهى الإتقان). 

بنفس السلاسة نُفاجأ بسيد مكاوي يضع كوبليها مصاغ بقالب "المارش" الرصين في وسط الأغنية (ما فيش بلد صانت كرامتها) قبل أن يعود للإيقاع الراقص في الكوبليه الأخير (التار قديم والعدو عدواني).  

  -7-

وجهٌ آخر للندرةِ في هذه الأغنيةِ يتمثلُ في أن صلاح جاهين كتبَ نسختين من نفسِ الأغنيةِ (وهي تجربةٌ نادرةٌ، وربما تكون فريدة، في تاريخ الغناء المصري). 

النسخةُ الأولى كتبت قبلَ العبور، وغناها سيد مكاوي وصلاح جاهين على العود، ولكنها لم تتحدث عن تفاصيل المعركة –بطبيعة الحال- وإنما روت نفس المعاني باستخدام ِ"توريةٍ" شخصية، من خلال حكاية/أمثولة Parable عن كيفية التعامل مع "شيخ المنصر" الذي يحاول الاعتداءَ على "بيتِك" لأنَ ما أُخذ بالقوةِ لا يُستردُ بغيرِ القوة. 

 

  -8-

الكلمات –في نسختي الأغنية– تستخدمُ عبارةً شهيرةً من خطابِ الزعيمِ الراحلِ جمال عبد الناصر في 23 نوفمبر 1967، وقد تكررتُ العبارةَ في آخرِ خطابٍ عامٍ ألقاه قبل وفاته (في 23 يوليو 1970). 

تعكسُ هذه الكلماتُ فكرةً سيطرت على كثيرٍ من المثقفين المصريين والعرب بعد النكسة، ومفادها: أن الهزيمةَ كانت تطبيقاً حتمياً لناموسِ الكون: فالأقوى والأكثرُ حداثة هو الذي ينتصرُ بصرفِ النظرِ عن عدالةِ قضيتِه، ولا يمكنُ مواجهةُ القوةِ بالحقِ وحده، وإنما بالقوة. 

تجدُ هذا في مثلاً في كتاب أحمد بهاء الدين الشهير وقتها "إسرائيليات.. وما بعد العدوان" وفي دراسةِ صادق جلال العظم "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، كما تجدُه في قصيدة "هوامش على دفتر النكسة" لنزار قباني، وفي القصةِ المبهرةِ التي كتبَها يوسف إدريس وقتها بعنوان "أنا سلطان قانون الوجود". 

صلاح جاهين، الذي أصابته النكسةَ باكتئابٍ لازمَه بقية حياته، انقطعَ عن كتابةِ الأغنيةِ الوطنية بعد النكسة، باستثنائين كبيرين: أغنية "الدرس انتهى" التي غنتها شادية في أعقاب جريمة مدرسة بحر البقر في 8 أبريل 1970، وهذه الأغنية. والأغنيتان بالمناسبة من ألحان العبقري سيد مكاوي. 

هذه الحالةُ النفسية، والعزوفُ عن الكتابةِ في مجالِ الأغنيةِ الوطنيةِ بعد النكسة، ربما تُفسر لنا أن أولَ مقاربةٍ لصلاح جاهين لهذه الفكرة التي آمنَ بها كغيرِه من مثقفي مصر المحروسة، بأن الدنيا كلَها تسيرُ وفقَ قانونِ "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة"، جاءت مقاربةً غيرَ مباشرةٍ تستخدمُ تورياتٍ –ولو أنها مكشوفةُ الغرض – لعرضِ هذه الفكرة. 

أما بعد المعركة، فقد قام صلاح جاهين "بكشفِ" تورياتِه، وصياغةِ الكلامِ بشكلٍ أوضح تعبيراً عن مقاصد الأغنية الأصلية، ونتج عن ذلك النسخة التي غنتها سعاد حسني. ولتحقيق هذه النقلة، قام سيد مكاوي بتعديلين على لحنه: الأول هو إدخال كوبليه جديد بلحن مختلف عن الجو العام الراقص للأغنية (ما فيش بلد صانت كرامتها)، والثاني هو إلغاء جملة "وريله إن الله حق"، وإدخال مذهب جديد مطلعه (نفوق بقى). 

بخلاف ذلك، احتفظت الكلماتُ بمعانيها وبشكلِها (رباعيات في المذهب والكوبليهين)، ونلاحظ فيها تيمة سادت في الأغاني التي صيغت خلال حرب 1973 وبعدها مباشرة، ومفادها أن الصراعَ مستمرٌ وله جولاتٌ قادمةٌ ولا ريب. فتقولُ الأغنيةُ "ولو يعيدها حنعيد تاني". تجد نفس التيمة في أغنية أحمد شفيق كامل/كمال الطويل/عبد الحليم حافظ "خللي السلاح صاحي" وفي أول فيلم مصري أنتج عن الحرب سنة 1974 "الرصاصة لا تزال في جيبي"، ولكنها اختفت لاحقا من الأغاني الوطنية وأفلام الحرب (وأفلام الحرب، بعكس الأغاني، كانت ذات قيمة فنية ضعيفة على أي حال) بالتزامن مع سيطرةِ فكرةِ "آخرِ الحروبِ" كما أوضحنا أعلاه. 

أما أداء سعاد حسني فمتوهجٌ، سواء من الناحية التطريبية (مثال: القفلة التطريبية في الكوبليهات) أو التمثيلية (الانتقال بين الحالات الوجدانية المختلفة). استمتعوا وتسلطنوا! 

لكن، قبل ان أنهي المقال، أنصح بمشاهدة هذا التسجيل الذي يتحدث فيه صلاح جاهين/سيد مكاوي/سعاد حسني عن عملهم البديع وأيضا عن فيلم خللي بالك من زوزو. 

ياسر علوي  كاتب وأكاديمي مصري
التعليقات