دفاع عن أوروبا.. شفقة أم اقتناع؟ - جميل مطر - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 8:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دفاع عن أوروبا.. شفقة أم اقتناع؟

نشر فى : الأربعاء 24 أبريل 2019 - 9:45 م | آخر تحديث : الأربعاء 24 أبريل 2019 - 9:45 م

سئلت عن سبب إكثارى من الكتابة عن أوروبا. أجبت، وبدون كثير تردد. قلت أكثرت لأننى من المؤمنين بمركزية أوروبا. مركزية طويلة العهد فى النظام الدولى الذى تقاعد مؤخرا وفى النظام الذى سبقه، وأى نظام وجد قبلهما، وكذلك فى النظام الجارى حاليا التفكير فيه والاستعداد له. قلت أيضا، وحتى لو تغافلنا عن هذه المركزية فى تاريخها الممتد عبر الزمن وتأملنا قليلا فى نمط التطورات الراهنة فى العلاقات بين الدول الكبرى وبينها وكثير من الدول الأصغر واقتفينا آثار حركة الشعوب فى آخر مراحلها لوجدنا أكثر المؤشرات تتوجه فى شكل تدفقات مباشرة قادمة من الجنوب عابرة البحر المتوسط ومن الشرق عبر اليابسة ومن الغرب عبر الأطلسى. نجدها تتوجه فى عكس توجهها فى معظم، إن لم يكن كل عصور التاريخ المسجل للحضارة الإنسانية.
أنا وكثيرون غيرى لنا كتابات تكشف عن أننا صرنا نرى أوروبا فى الظروف الراهنة ضعيفة ضعفا ملموسا. نراها أقل منعة فى مواجهة غزوات ثقافية وتجارية وسياسية تشن عليها فى وقت واحد من نقاط فى أقصى الشرق وأخرى فى أقرب الشرق. رأيتها خلال الشهور الأخيرة تراجع نفسها وقد اتضحت احتمالات مستقبل تغيب فيه القيادة الأمريكية عن مباشرة مسئولياتها الأمنية فى العالم الغربى، وتختفى عنه بعض أهم قواها الناعمة، وتعود معه بعض أسباب العنف والاقتتال الذين اشتهر بهما تاريخه الممتد. لا بد أن أضيف هنا أننى خرجت من جولة تأملاتى أشد اقتناعا بأن أوروبا وإن مريضة فإنها لا تزال تحتفظ بقوة جذب جيوسياسية هائلة.
***
لم أكن وحدى. كانت معظم مراكز البحث الأوروبية تسعى فى الاتجاه نفسه ومعها إعلاميون كثيرون. كلهم راحوا يقيسون مساحة الضرر الذى أصاب أوروبا. واحدة منهم صاغت عنوانا واضحا ومباشرا لسؤال يمكن أن تجتمع فى مضمونه مؤشرات عديدة. صاغته الباحثة والصحفية جودى ديمسى فى الكلمات الثلاث التالية «هل انكسرت أوروبا؟» ووجهته إلى عدد كبير من المتخصصين فى الشأن الأوروبى والخبراء فى حقل العلاقات الدولية مع طلب الإجابة عليه بايجاز وصدق. قرأت الإجابات، كلها فيما أتصور. وجدت ما يشبه الإجماع على تسجيل عبارة «لا.. أوروبا لم تنكسر» تلحق بها فورا والتصاقا كلمة «ولكن». أرادوا بكل ما قيل أو كتب بعد كلمة ولكن، أن يعلنوا بالتلميح أن أوروبا لم تنكسر. أوروبا فى نظر محبيها وعشاقها وخبرائها لم تنكسر، أوروبا معطوبة أو مصابة أو ضعيفة أو مريضة أو مضغوطة أو مقصرة أو عند مفترق طرق أو متحولة أو مأزومة أو غير واثقة أو فاقدة الثقة، اختر ما شئت من صفات، ولكنها لم تنكسر.
***
أنقل فيما يلى ملخصا لبعض ما ذكره الخبراء كتحليل وتوصيف للحالة الأوروبية الراهنة من خلال إجاباتهم على السؤال، هل انكسرت أوروبا؟ أحدهم واسمه بلندوسكى خبير فى الاقتصاد الدولى وعضو فى البرلمان الأوروبى، أى أنه قريب الصلة والفهم لعمل مؤسسات الاتحاد الأوروبى قال إن أوروبا لم تنكسر ولكنها ستعجز عن توفير وظائف للعمال الذين سيفقدون وظائفهم نتيجة التقدم التكنولوجى المطرد حتما وظروف الانتقال إلى مرحلة الذكاء الاصطناعى. أوروبا سوف تفشل فى مهمة تضييق الفجوات بين مختلف أقاليمها الجغرافية، أقاليم الجنوب والشمال والشرق والغرب. أوروبا ليست مؤهلة لصد الإرهاب وحملات التخريب السيبرية سواء القادمة من إيران أو من روسيا أو حتى المتبادلة بين دول الغرب.
***
قالت خبيرة أخرى، إليزابيث براو، إن أوروبا لم تنكسر والصف طويل تصطف فيه دول تريد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى. مشكلة أوروبا، فى رأى السيدة براو، تكمن فى أمرين: أولهما توقعات الشعوب الأوروبية وحلفائها منها، وأقصد من أوروبا الحلم والواقع والأمر الثانى يجسده انخفاض معدل سرعة الاندماج والتكامل. نذكر فى السبعينيات كيف نفذت المؤسسة الاندماجية الأوروبية معدلات بالغة السرعة فى الاندماج وهى الآن بالكاد تتحرك. أضف إلى التوتر الناتج عن هذه المشكلة توترات أخرى ناشئة عن ظاهرة رجال من نوع فيكتور أوربان الزعيم المجرى. أمثاله من الشعبويين والقوميين الجدد قد يكونون على وشك أن يحتلوا أغلبية المقاعد فى البرلمان الأوروبى. «حتى لو وقع هذا الاحتمال سوف تبقى أوروبا غير منكسرة».
***
أما الخبيرة السويدية مارجريتا سيديفيلت فتقول هى الأخرى إن أوروبا ليست منكسرة ولكنها تحت الضغط. تأتى الضغوط من تدفقات الهجرة ومن التهديدات الروسية للاتحاد الأوروبى. تأتى أيضا من وراء الحرص الشديد على حماية قيم بعينها مثل حرية انتقال المواطنين وحريات التعبير والعقيدة والمساواة والليبرالية. بالنسبة لهذه الخبيرة وغيرها يكفى وجود هذه القيم لنعرف أن أوروبا لم تنكسر.
***
يقول انجيلوس كريسيلوس عن أوروبا إنها قد تكون منكسرة ولكن هذا لا يعنى أنها ستنفرط قريبا. أوروبا تعانى من عجز فى السياسات وفى التمثيل. فشلت فى مجالات عديدة. فشلت فى وضع سياسات مناسبة للتعامل مع اللاجئين وفى تخصيص حصص لدول فى مسألة الهجرة. فشلت كذلك فى الاستعداد والتأهل لتسوية أزمة يتسبب فيها خروج عضو من الاتحاد الأوروبى. إن استمرار هذه العقبة، عقبة التصدى لتداعيات خروج عضو من الاتحاد، سوف يزيد فى قوة وانتشار الحركات الشعبوية والقومية، التى سوف تحاول بدورها العمل من داخل مؤسسات أوروبا وليس بالضرورة من الخارج. الغريب فى آراء هذا الخبير اعتقاده أن الشعبوية الزاحفة على مؤسسات الاتحاد الأوروبى قد تفيد فى التصدى لمحاولات هيمنة بعض الدول الأعضاء على جهاز أو آخر فى الاتحاد.
***
بال جونسون السويدى يعتقد هو الآخر أن أوروبا لم تنكسر ولكنها تتعرض لثورة مضادة للنظام الليبرالى العالمى بشكل عام وهى نفسها أحد أهم أهداف هذه الثورة. هناك تحديات أخرى منها تدفق المهاجرين واللاجئين والنقص الشديد فى حال التضامن والانسجام داخل المجتمعات الأوروبية. بمعنى آخر يرى أن مشكلة الوحدة الأوروبية تجد بذورها فى المجتمعات الوطنية وليس فى مؤسسات الاتحاد الأوروبى. يعتقد جونسون أن الأزمة الناتجة عن خروج بريطانيا تجسد وحدها ضغطا هائلا على هياكل الاتحاد الأوروبى، ومع ذلك يتصور أن العائد سيكون إيجابيا بدليل هذا الإقبال على المشاركة فى انتخابات البرلمان الأوروبى.
***
الخبيرة البلجيكية ياسمين خرباش تعتقد مثل غيرها من الخبراء أن أوروبا لم تنكسر وإن قصرت فى تحقيق توقعات الشعوب. قصرت مثلا فى التعامل مع أزمة الهجرة، وتعنتت فى فرض التقشف خلال الأزمة الاقتصادية، ولم تحسن الأداء خلال مشكلة البريكسيت وأخفقت بشدة فى التعامل مع الفجوة المتفاقمة بين الفقراء والأغنياء. خبير آخر يعتقد أن أوروبا تقف عند مفترق طرق وفى الغالب لن تحقق ما وعدت به المواطنين الأوروبيين. هناك مشاكل حقيقية تتعلق بتناقص ثقة هؤلاء المواطنين فى مؤسسات الاتحاد، فضلا عن زيادة كبيرة متوقعة فى عدد وأنشطة الحركات الراديكالية. هذا الخبير واسمه جوها ليبونيم وهو من فنلندا يعود وينبه إلى التحديات الهائلة القادمة وأهمها أولا، التحول فى اتجاه الثورة الرقمية وثانيا، التخلص من الكربون. ويضيف أن هذه التغيرات المهمة لا تحظى بحماسة جماهيرية كالحماسة التى صاحبت تحديات نشأة الاتحاد.
***
«أوروبا لم تنكسر». بل إنها من نواحٍ عديدة أحسن حالا من أى وقت مضى. جاء وقت كان الشيوعيون يحصدون حوالى 30% من أصوات الناخبين ثم جاءت الحركات الراديكالية تهز أركان الاستقرار فى أيرلندا وإيطاليا وألمانيا واليونان على امتداد الفترة بين السبعينيات والتسعينيات من القرن الماضى». هكذا يدافع الخبير الإنجليزى دنيس ماشين عن حال أوروبا الراهن، ويذكر بالانتقادات والمواقف المعادية للمؤسسات الأوروبية من جانب ديجول ومارجريت تاتشر وبرلسكونى فى إيطاليا وأزنار فى إسبانيا. صمدت أوروبا فى وجه كل هؤلاء وفى وجه الأزمة المالية العالمية فى 2008 وهى التى كان يمكن أن تتفوق بخطورتها وعواقبها على أزمة الكساد العظيم التى ضربت العالم فى القرن الماضى.. ثم نشبت أزمة البريكسيت تنذر بخسائر اقتصادية هائلة. هذه جميعها تؤكد قدرة أوروبا المتجددة باستمرار.
***
تعتقد الخبيرة اليونانية الينى بانجوتا أن المبشرين بانكسار أوروبا لهم أهدافهم. هؤلاء يريدون سحق الليبرالية ويدعون لفرض الرقابة على الصحف وتقييد الحريات. وتعيب على المسئولين فى مؤسسات الاتحاد تقصيرهم فى إدخال الاصلاحات الضرورية على أجهزة ونظم عمل الاتحاد. أدى هذا التقصير إلى ابتعاد المواطنين الأوروبيين عن أوروبا عاطفيا وسياسيا. ومن ليتوانيا يدعو الخبير جينتارى سكايستى إلى الواقعية فى النظر إلى أوروبا. إن مشكلات أوروبا ليست أكثر أو أقل من مشكلات كل العالم. هناك الفجوة بين الفقراء والأغنياء وانحسار الثقة فى الديمقراطية. هناك أيضا التناقض فى المصالح القطرية للدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى والعجز عن محاسبة المسئولين فى المفوضية.
***
أما ايفان فيزفودا فيقول لقد انقضت مرحلة التدليل لأوروبا وحان وقت الاعتماد على النفس. أوروبا تقدمت ونمت فى ظل مظلة الأمن التى وفرتها أمريكا، وهى الآن تسحبها. واقع الأمر فى قضية انكسار أو عدم انكسار أوروبا يرتبط بتطورين على أقصى درجة من الأهمية، الأول صعود ترامب والثانى خروج بريطانيا. يقول بيير فينون أن أوروبا لم تنكسر ولكن تحد من أدائها ثلاثة عوامل أولاها النقص فى التضامن المطلوب أثناء المفاوضات مع الخارج، ثانيها التقاعس عن المشاركة فى حل المشكلات الجماعية، ثالثها ما زالت حكومات أوروبا تطبق مبدأ «كل منا لتحقيق أهدافه أولا».
***
كنت أقرأ ما سطره خبراء أوروبيون دفاعا عن الاتحاد الأوروبى وكلى أمل ورغبة فى أن أرى عندنا جهدا مماثلا للدفاع عن جامعة الدول العربية. وأسأل نفسى مرة أخرى لماذا لا أجد عربا بهذا العدد يدافعون بهذا الصدق وبقدر معقول من الأمانة عن الجامعة العربية. انكسر العمل العربى المشترك فهل من مدافع يصرخ بصوت عال أو حتى يهمس فى أذنى، «لا لم ينكسر». الحلم العربى غاب عنا فى صحونا ونومنا. زهق وتبخر فلن يعود. أم أنه يوما سيعود؟

 

 

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي