أولا:
كلما بدأت الكتابة فى موضوع من الموضوعات الكثيرة التى تغرى القلم بتناولها، وجدت طيف هذا الطفل الجميل البرىء الذى شاركنا فى تشييع جنازته بالحزن والأسى منذ أيام يحتل مكان كل ما كان يغرى بالكتابة.
وليس هذا لأنه حفيد رئيس الجمهورية بل لأنه حفيد إنسان، قد يختلف البعض معه سياسيا ولكن أحدا ممن عرفوه عن قرب وحتى من تابعوه عن بعد لا يستطيع إلا أن ينجذب إليه ولصفات فيه كثيرة قد لا تبدو كلها لمن لم تتعد العلاقة به حتى فى أوقات قليلة حدود الرسميات، ولقد أتيحت لى فى ظروف ليست كلها سهلة أن أجلس إليه بعيدا عن الجلسات الرسمية وأن استمع إليه يتحدث ببساطة عن ذكريات له وآمال.
وفى بعض هذه المرات كان الحفيد محمد موجودا ــ وهو الذى عرفته بعد ساعات قليلة من ولادته ورأيته بعد ذلك أكثر من مرة فى مراحل عمرية مختلفة.
ورأيت ذلك الحب بين الجد والحفيد يتدفق فى عذوبة وعمق وحنان متبادل، وكانت هذه اللحظات تبدو لى حقا لحظات ساحرة وسحرية يبدو فيها الإنسان فى أجلم سجاياه، وتظهر فيها روابط أسرية يتخفف فيها الجد والجدة من هموم المسئوليات الرسمية الجسيمة. وعرفت أيضا الأب ــ الانسان المهذب البسيط والأم الحنون التى تربى ابنها أحسن تربية وتضع فيه الآمال الكبار بأن يكون عضوا متميزا فى مجتمع نتمناه كلنا لوطننا.
ولست أجد كل ما أقوله فى هذه المناسبة الحزينة، لأخفف من آلام جسام رأينا الكثير من تعبيراتها أثناء تشييع الجثمان، ونشعر عميقا بما لم نره لأن أصحابه آثروا أن يكون حزنهم مجرد حزن إنسانى بعيدا عن أعين الناس، صحيح يستطيع المرء أن يلجأ إلى كلمات العزاء المعتادة، وإلى الدعوات التى تنطلق إلى الله تعالى فى هذه المناسبات الحزينة، ولكن ذلك لن يعكس عمق ما أشعر به من مشاركة حقيقية فى مصاب أسرة مصرية يحمل رئيسها عبء الوطن وأضيف إليه الحرمان من أعز الناس إليه، كلمات العزاء مهما كانت صافية وبليغة لا تكفى، ومشاعر المشاركة الصادقة يصعب نقلها أو التعبير عنها، وتبقى دمعة فى العين تحاول أن تقول ما يصعب لغيرها أن يقوله.
ثانيا:
إذا كانت الظروف قد حكمت بأن يؤجل الرئيس مبارك زيارته للولايات المتحدة تأتى لتضع بداية النهاية لجفوة نتجت عن سياسات أمريكية ستظل فى سجلات التاريخ عنوانا لأسوأ إدارة أمريكية منذ سنوات طويلة بدا فيها كأن حكام واشنطن يتعمدون أن يحسبوا أنفسهم فقاعات من الأوهام تمنع عنهم الرؤية والرؤيا فيخونون كل المبادئ التى كانت الولايات المتحدة تتفاخر بها ــ بالقول فقط غالبا وبالفعل أحيانا ــ ويخسروا كثيرا من أصدقائهم ويؤكدوا شكوك من يتشككون فى حسن نواياهم ــ إذا كانت الظروف قد قضت بتأجيل الزيارة، فإن الرئيس أوباما سوف يحضر بنفسه إلى القاهرة فى زيارة أصبحت بذلك تجمع بين طابعين: الطابع الثنائى الذى يحتاج إلى ترميم، والطابع الجماعى وهو التحدث إلى العالم الإسلامى وإجراء حوار بناء معه يتجاوز أضرار ما سمى بصراع الحضارات والذى أدى إلى الخلط ــ فى ذهن الأمريكيين ــ بين الإسلام كدين وممارسات بعض المنتمين إليه، وكان أوباما قد بدأ هذا الحوار فى أجزاء من خطاب له فى تركيا، ولكنه هذه المرة اختار أن يتوسع فيه فى عاصمة هى قلب العالم العربى والعالم الإسلامى حتى يكون لحديثه أصداء أوسع وأعمق، وإذا كنا قد رأينا من أحاديث الرئيس الجديد فى موضوعات مختلفة أنه يحسن التعبير الواضح الصريح فإننا نتوقع أن يكون خطابه فاتحة عهد جديد من التعامل مع الآخرين خروجا على النظرية الخرقاء التى تقول «من ليس معى فى كل شىء فهو ضدى».
ونحن نعرف أن الرئيس أوباما يتعرض فى محاولاته تجديد واصلاح السياسات الأمريكية إلى ضغوط كثيرة مضادة، وآخرها خروج نائب الرئيس السابق تشينى من الجحر الذى كان قد أوى إليه عن حق باعتباره مهندس السياسة الخرقاء التى كادت أن تورد الولايات المتحدة والعالم موارد الهلاك المعنوى والمادى. وعلى الرغم من أن الرئيس أوباما بدأ فى بعض الأحيان مضطرا إلى التخفيف من بعض اتجاهاته دون الرجوع عنها كما حدث بالنسبة لجوانتانامو ومعاملة المعتقلين ومحاكمتهم، فإنه يبدو مصمما على السير فى الاتجاه الأصلى حتى مع بعض التعرجات. وبالنسبة لقضية فلسطين فقد رأينا كيف أن ضغوط نتنياهو وزمرة اللوبى اليهودى لم تزحزه إلا قليلا، وسوف يتوقف علينا أن ندعم صموده أمام كل القوى التى ستتجمع ضد سياساته التى تميل إلى العدل وذلك عن طريق مواقف عربية ــ وبالذات فلسطين ــ موحدة. وفى هذا الصدد فقد أدهشنى إصرار الرئيس أبومازن دون مقتضى على تشكيل حكومة جديدة قسمت منظمة فتح نفسها، وجاءت فى توقيت غريب مع استمرار الجهود المصرية للدفع نحو حكومة وحدة وطنية وكان بوسعه أن يعيد تكليف حكومة تسيير الأمور مؤقتا لحين التوصل إلى نتيجة نرجوها إيجابية ــ رغم الصعوبات ــ لمباحثات القاهرة.
ثالثا:
زرت السودان ضمن اللجنة العليا التى شكلها الاتحاد الأفريقى.. لتقديم مقترحات حول مشكلة دارفور، وهى لجنة يرأسها الرئيس مبيكى رئيس جمهورية جنوب أفريقيا السابق، وتضم فى عضويتها كذلك رئيس جمهورية نيجيريا السابق، ورئيس جمهورية بورندى السابق، وقاضية من زامبيا، بالإضافة إلى شخصى، وتعاونها مجموعة من خبراء القانون الدولى (المرموقين) على رأسهم الدكتور صلاح عامر الذى سبق أن لعب دورا مهما فى الإعداد والمشاركة فى قضية استرداد طابا.
وقد زرت مع اللجنة الخرطوم حيث عقدنا لقاءات مع ممثلى الأحزاب وممثلى منظمات المجتمع المدنى، كما زرنا جوبا للقاء سيلفا كير النائب الأول للرئيس السودانى، وقد اتسمت كل اللقاءات مع معارضين ومؤيدين بروح الرغبة فى تجاوز الأزمة الحالية عن طريق تحقيق السلام والعدالة والمصالحة بكل ما تحمله تلك الكلمات من معان. وكانت الإدارة الحكيمة للرئيس مبيكى تشجع على استخلاص الايجابيات من براثن مواقف تبدأ من نقاط اختلاف واضحة. وقد أعجبنى أننا فى زيارتنا للجامعة لمقابلة منظمات المجتمع المدنى لم نتسبب ولم تتسبب أية إجراءات فى تعطيل الطلبة عن ممارسة نشاطاتهم العادية دراسية أو اجتماعية.
أما عن زيارة جوبا فبصرف النظر عما سمعناه، فقد شعرت بأمرين: أولهما الجهد الذى تبذله مصر، فأول ما يقابله الوافد عند مغادرة المطار هو المستشفى المصرى، وكذلك أقامت مصر محطتين للكهرباء وتعمل على إقامة محطة أو محطتين أخرتين، وهو جهد مقدر فى إطار السياسة التى اتخذناها منذ اتفاقيات نيفاشا بأن نعمل على أن يكون خيار الوحدة هو الخيار الأكثر جاذبية عند إجراء الاستفتاء فى 2011.
ومع ذلك فقد شعرت بعدم الاطمئنان تماما، إذ إن بعض المظاهر توحى بأن خطر الانفصال مازال يحتاج إلى جهود حثيثة لمواجهته بالطرق السلمية الايجابية. ومازلت أذكر أن المرحوم جون جارانج ذكر لى أكثر من مرة أنه فى الواقع «الوحدوى الحقيقى» وأتمنى أن يكون قد نقل هذه الروح التى تحتاج إلى جهد لترجمتها إلى واقع إلى زملائه.. وعلى أية حال فهذا موضوع خارج عن نطاق مهمة اللجنة التى شاركت فيها، والتى تركز على مشكلة دارفور، ولكن الأمور متشابكة إلى درجة، لعل منها السؤال عن سبب مقابلة النائب الأول لرئيس جمهورية السودان اللجنة الخاصة بدارفور فى جوبا وليس فى الخرطوم.