تحت ظلال السلاح يطرح سؤال المصير نفسه على بلد عربى تقوضت دولته وانتهكت ثرواته وتمركزت على أراضيه معسكرات تنظيم القاعدة.
احتمالات المواجهات العسكرية مرجحة، فليبيا مخزن سلاح كبير تتوزع على امتداد خريطته الميليشيات بعضها يوالى جماعة الإخوان المسلمين وبعضها الآخر ينتسب إلى التنظيمات التكفيرية وأغلبها جهوى فى كل مدينة وحى.
بحسب تقديرات موثوقة فإنه هناك (٢٥) مليون قطعة سلاح فى متناول الأيدى و(٢٥٠) ألف مقاتل مستعدون للمواجهة.
فى دولة الميليشيات انتهكت أية شرعية وفى تحالف الإخوان والتكفيريين نذير جديد بانهيار أفدح للجماعة التى عجزت بصورة كاملة أن تقدم نموذجا سياسيا للإسلام المعتدل.
لم يحدث فى التاريخ الحديث كله أن طلب رئيس برلمان من ميليشيات مسلحة حماية مقره وتأمين اجتماعاته وأن ينسب طلبه للشرعية والثورة أو أن تحذر ميليشيات «من العبث بالدولة الليبية» بينما تعلن الحكومة المؤقتة أنها «تقف على مسافة واحدة من المتصارعين»!
فى ليبيا ابتذلت المصطلحات السياسية وكما لم يحدث فى أى بلد عربى آخر بعد ما سمى بـ«الربيع العربي».
ورغم أن البرلمان (المؤتمر الوطنى العام) انقضت ولايته فإن رئاسته حاولت فرض حكومة موالية للجماعة بترهيب القوى السياسية الأخرى وبإجراءات مطعون عليها.
فى السعى للتمكين بقوة الميليشيات انهارت أية احتمالات لإعادة بناء مؤسسات الدولة وبدأت الأطراف الأخرى تخطط لمواجهات حاسمة.
لم تكن هناك مفاجأة فى تحرك اللواء «خليفة حفتر» قائد القوات البرية السابق. هو نفسه يؤكد أنه خطط لـ«عملية الكرامة» منذ شهرين. ربما لم تستلفت تحركاته أية اهتمامات كبيرة، فهو قد قام من قبل بانقلاب تليفزيونى فشل فى لحظة إعلانه. المفاجأة الحقيقية أنه نجح هذه المرة فى قلب المعادلات الليبية وإعادة رسم خرائطها السياسية والعسكرية باستقطاب أغلب قطاعات الجيش والأمن والقبائل الرئيسية إلى صفوفه بمجرد أن أعلن عن عملية لاسترداد الكرامة التى أهدرتها الميليشيات المتشددة طلبا لمستقبل تعطل وأمن غاب.
هنا القضية الحقيقية فى قصة ما يحدث فى ليبيا الآن.
التوجه الليبى العام للانعتاق من دولة الميليشيات هو جوهر الصدام المحتمل أو التسوية الممكنة.
بتلخيص ما فإن ليبيا غادرت مرحلة دون أن تؤسس لأخرى وقوضت نظاما دون أن تبنى دولة.
سعت قوى دولية وإقليمية لإنهاء حكم العقيد «معمر القذافى» لأسباب مختلفة. ضخت أموالا ودعايات وتدفقت أسلحة وجهاديين وتدخل حلف «الناتو» لحسم الحرب.
كان النظام فقد شرعيته وجدارته بالبقاء غير أن الذين تحالفوا ضده لم تكن تعنيهم قضية التغيير وثوارها وبعض النظم التى حاربته أشد استبدادا وتخلفا.
أهينت العسكرية الليبية والميليشيات رفضت الانضمام إلى الجيش وتوفيق أوضاعها وباتت سلطة فوق السلطة، الكتائب الإسلامية تنتظم فى تنسيقية «غرفة ثوار ليبيا» والكتائب الجهوية تعمل بشكل انفرادى. وعلى نحو منهجى بدأت أوسع عمليات اغتيالات لضباط وجنود الجيش والأمن دون اعتراض رسمى يذكر واستبيحت أية هيبة لمؤسسات الدولة، أو ما يفترض أنها دولة، باختطاف متكرر لكبار مسئوليها بمن فيهم رئيس الوزراء نفسه والمقايضة سياسيا على إطلاق سراحه عبر وساطة نافذة لرئيس البرلمان الذى يتحدث بلا خجل عن الشرعية والثورة.
انضمام القطاعات العسكرية والأمنية بصورة شبه كاملة لقوات اللواء «حفتر» ترجمة مباشرة للشعور بوطأة الاستهداف.
لعبة الاغتيالات الممنهجة بدأت مبكرا قبل سقوط «القذافى» باغتيال اللواء «عبدالفتاح يونس» الذى كان يتولى القيادة العسكرية للمعارضة برصاص جماعات تكفيرية خشيت من أدواره مستقبلا وأرادت إخلاء الميدان لما بعد سقوط النظام.
قبل اغتيال «يونس» عاد جنرال آخر من منفاه فى الولايات المتحدة إلى بنغازى واستقبل فى أوساطها كبطل من الأساطير. لم يكن الرجلان على توافق، اقتربا إلى أبعد حد من «القذافى» وافترقا معه إلى أبعد نقطة. أحدهما زامله فى مجلس قيادة الثورة الليبية والآخر قاد قواته فى حرب تشاد.
بغض النظر عن شخصية اللواء «حفتر» المثيرة للجدل فإنه الرقم الليبى الصعب الآن فى سؤال المصير.
ليبيا بموقعها الجغرافى وثروتها النفطية أكثر أهمية من أن يترك مستقبلها للمجهول. هناك أطراف إقليمية متداخلة فى الصراع، بعضها يلاحق الجماعة فى مواقعها الأخيرة وبعضها الآخر يحارب معركته هو قبل الآخرين. إن أى نظرة عابرة على تغطيات الفضائيات العربية لأحداث ليبيا تستكشف طبيعة أدوار بلدانها.
من المثير أن حلفاء الأمس الإقليميين فى الحرب على ليبيا أصبحوا أعداء اليوم فى الصراع على مستقبلها بينما اللاعبون الدوليون يتأهبون لتحرك جديد لم تتضح كامل معالمه.
هناك قلق أوروبى من «أفغنة ليبيا» أو أن تتحول إلى مركز تجمع للتنظيمات التكفيرية فى منطقة حساسة تطل على قلب العالم العربى فى مصر وعلى غربه فى الجزائر وتونس وقريبة من تجمع مماثل فى مالى الأفريقية.
بالنسبة لدول الجوار التى اكتوت بتهريب شحنات السلاح داخلها فإن قضية تأمين الحدود شاغلها الأول.
هناك توجه معلن لمؤتمر تستضيفه القاهرة يبحث فى تأمين الحدود وتبادل المعلومات الاستخباراتية وتنفيذ مقررات جرى التوافق عليها فى مؤتمرات أمنية مماثلة.
بعض التقديرات الرسمية غير المعلنة تقول إن (٩٠٪) من السلاح الذى دخل مصر بعد ثورة يناير جاء عبر الحدود الليبية.
وبالنسبة للقوى الدولية النافذة فإن هناك توجها للدعوة إلى مؤتمر دولى لتأمين ليبيا.
فى زيارة وزير الخارجية المصرى «نبيل فهمى» للعاصمة الأمريكية واشنطن، ولم تكن أحداث ليبيا قد اشتعلت، أطلعه نظيره الأمريكى «جون كيرى» على فكرة المؤتمر دون تفاصيل عن الجهة الداعية وأطرافه الرئيسية وأجندته ومراميه. من المتوقع الآن أن يأخذ مشروع المؤتمر الدولى تفاصيله من مادة التطورات الليبية.
فى الجو السياسى الملتهب اقتراحات ليبية متضاربة كمنح المؤتمر الوطنى العام «إجازة برلمانية» لحين إجراء انتخابات نيابية قرب نهايات يونيو المقبل وصيغ أخرى مشابهة تتعجل الانتخابات، غير أنها تفتقد إلى الواقعية بصورة فادحة فلا يعقل أن تجرى الانتخابات فى توقيت ضيق للغاية وأوضاع اشتباك مسلح.
من السيناريوهات الافتراضية العمل على تجنب الاحتراب الأهلى وتجنيب القاعدة من أية تفاهمات ممكنة. وهو سيناريو اشتراطاته صعبة على جماعة رهنت أدوارها السياسية على التحالف مع الجماعات التكفيرية. إن خرجت من تحالفها خسرت قوتها وإن استمرت فيه خسرت مستقبلها.
من السيناريوهات الأخرى تجنيب كتائب «مصراتة» الأقوى عسكريا والأكثر تسليحا ثقيلا من المواجهات وحصرها مع الجماعات التكفيرية لتقليل كلفة الدم وحجم الخسائر لكنه خيار صعب آخر، فالكتائب ترتبط بالجماعة التى تحتذى التجربة المصرية بالذهاب إلى انتحار تاريخى آخر.
السيناريوهات كلها مفتوحة لكنها رغم أية تكاليف باهظة تضع ليبيا فى وضع أفضل نسبيا مما وصلت إليه.