(1)
ربما كان الوحيد من كتّاب جيل الستينيات الذى قرأتُ عنه كثيرًا قبل أن أقرأ نصوصه مباشرة، ما من كتابٍ أو دراسة أو مقالة تعرضت لأدب الستينيات، وجيل الستينيات، إلا وكان اسمه فى الصدارة من هذه الكتابة.
عرفت أنه ينفرد بطرائقه المخصوصة فى السرد منذ صدرت أولى رواياته «تلك الرائحة» (1966). قرأتُ عنها ما كتبه المرحوم جابر عصفور، وما عرضه عن الاستجابات المتعارضة لها، ما بين تقزُّز يحيى حقى منها، وحماسة يوسف إدريس لها الذى كتب لها مقدمة ذكر فيها «أنها تلخص فترة من حياة جيل صنع الله، إنها صفعة أو صرخة أو آهة منبهة قوية تكاد تثير الهلع»!
ورغم ذلك فلم تكن «تلك الرائحة» هى أول ما قرأت لصنع الله!
«بيروت ـ بيروت»، فى طبعتها الأنيقة الصادرة عن دار المستقبل العربى، بغلافها الأصفر و«فونتها الدقيق»، هى أول ما قرأت له، رواية جديدة علىّ تماما، ومختلفة بطريقتها «التوثيقية» التسجيلية، وما زلت أراها حلقة أساسية فى استيعاب تجربة صنع الله إبراهيم، وفى طريقته المخصوصة للتعامل مع فن السرد وأدواته، ومحاولته اصطناع حالة من الحياد، تتيح التأمل بقدر ما تصنع من الصدمة، ثم قرأت له «اللجنة»، و«نجمة أغسطس»..
وتوالت قراءاتى لأعماله تباعًا بعد ذلك: «ذات»، «تلصص»، «يوميات الواحات» وكان من آخر ما قرأت روايته القصيرة البديعة «67» التى نشرت فى دورية (عالم الكتاب) منذ سنوات عشر ربما أو أقل بسنة أو اثنتين. بالتأكيد صنع الله من أهم الأصوات السردية المصرية والعربية فى المائة سنة الأخيرة.
(2)
أيقنت أننى إزاء كاتب مراوغ تغرى بساطة سرده وسهولة نسجه بأنه كاتبٌ عادى!! لا لم يكن كاتبا عاديا أبدا! كان واعيا وعميقا ويعلم أن يختط لنفسه مسارًا مغايرًا وطريقًا مختلفًا، لديه مزج بديع بين العام والخاص، حياده السردى «مذهل»، طريقة الرصد التسجيلى وتقنية عين الكاميرا التى اعتمدها مع فن السرد وأدواته، أتاحت له حالة من التأمل قد تثير من الصدمة لقارئها -حال قراءتها بنفاذ - استشفاف دلالات هذا الحياد «المزعوم»!
بذكاء وحساسية عالية يقترب المستعرب الفرنسى ريشار جاكمون من رسم خريطة تصنيفية فنية لأعمال صنع الله إبراهيم «الأساسية» أو التى تمثل رواياته «المركزية» فى مشروعه الإبداعى الكبير، لخصها فى ثلاثيات متجانسة ومتكاملة.
فبعد روايته الاستهلالية التى كرست ميلاد جيل الستينيات وتميزه؛ وهى «تلك الرائحة»، كتب ما أطلق عليه (ثلاثية المثقف النقدى المستقل المعتزل) التى تبدأ بـ«نجمة أغسطس»، وتتواصل فى «اللجنة»، وتكتمل مع روايته التوثيقية المحكمة «بيروت.. بيروت».
وقد تبعها بثلاثية أخرى؛ هى «ذات»، و«شرف»، و«وردة»، ثم بثلاثية أخيرة دعاها بثلاثية (الباحث عن الحقيقة)، المهموم بفوضى العالم وشتاته المزعج، فى «أمريكانلى»، و«القانون الفرنسى»، و«الجليد» والتى تكشف عن معاناة المثقف الحقيقى المستقل فى عالم موبوء ومترع بالفساد.
(3)
ألمحتُ فى مقالى الأسبوع الماضى، إلى أن صنع الله من الكتاب القليلين الذين نجحوا فى إحداث قطيعة حاسمة مع التقنيات الواقعية السائدة آنذاك، بكسره عامدًا قواعد المنظور الروائى وتراتب أهمية التيمات والأحداث فى الرواية.
وانفرد، دون أبناء جيله بتكنيك مميز، توضحه الأستاذة نادية بدران فى مادتها التعريفية عنه بـ «قاموس الأدب العربى الحديث»، بقولها «تعتمد تركيبة البنية السردية فى أعمال صنع الله على مادتين متلازمتين: الوصف الدقيق للواقع الروائى، بمختلف علاقاته المتشابكة من أحداث وشخصيات، والمادة التسجيلية الخالصة التى تعرض مقتطفات إخبارية وثائقية شتى مستمدة من الواقع الفعلى لزمن كتابة الرواية».
وركز صنع الله على توظيف تلك «التقنية» التى لم تظهر بوضوح من قبل فى الرواية العربية، أو على الأقل لم تكن ضمن مدونة التقنيات الظاهرة التى استخدمها الكتاب والروائيون قبل صدور روايته «بيروت بيروت» (1984) التى دارت وقائعها حول الحرب الأهلية فى لبنان، ومعها انتشرت (أى تقنية «التوثيق والتسجيل») على نطاقٍ واسع مع ما أسماه نقادٌ بـ «رواية المقاومة» (هذه التقنية قدمها الروس بعد الحرب العالمية الأولى).
وفى هذا الإطار كرس صنع الله لجمالية «التوثيق» و«التسجيل» فى الرواية العربية، وبحيث تكون هناك علاقة تبادلية مشتركة بين شقى النص «المرجعى» و«المتخيل»، ويشكلان معا وحدة دلالية واقعية للعمل، ذات أبعاد متشعبة، متناقضة فيها «مفارقة» وفيها «سخرية» من مجريات العصر، وتغدو شخصيات العمل وأفعالها إفرازًا طبيعيًا، للمرحلة الزمنية التى تصورها الرواية. وهذه التوليفة تجعل روايته «وثيقة فنية تاريخية لفترة بعينها»، بحسب ما تقول نادية بدران.
(4)
هكذا، بدا من واقع إنتاج صنع الله الروائى أنه من أبرز الروائيين الذين كتبوا «الرواية السياسية» من بين أبناء هذا الجيل، ودانت كل أعماله الأنظمة الحاكمة، ورفضه الشديد لكل مظاهر القمع والقهر والفساد، والتغلغل الأجنبى بكل أشكاله، وما يترتب على ذلك من معاناة للبشر.. (وللحديث بقية).