وجبة بسيطة للعشاء - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 7:48 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وجبة بسيطة للعشاء

نشر فى : السبت 26 أكتوبر 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 26 أكتوبر 2013 - 8:00 ص

لا تزال برامج الراديو مع بعض التحفظ وسيلة جيدة لتمضية الوقت وربما لمتابعة الأحداث؛ خاصة حين يقضى المرء ساعات طوال فى سيارة، رهين الازدحام المريع الذى صار يخنق الشوارع كلها على امتداد الليل والنهار.

ألجأ إلى الراديو فى البيت أيضا حين أشعر بالحاجة للتخفف من آلام الرأس التى يولدها التحديق المتواصل فى الشاشة. يصبح الإنصات إلى الصوت المنفرد خيرا وأرقى من مشاهدة المتحاورين والمتحاورات. أقول «مع التحفظ» إذ تبدو الإذاعة المصرية منذ فترة وقد أصبحت بدورها مصدرا متجددا للصداع، ولمنغصات أخرى.

يحكى كثير من متابعى الراديو ومحبيه كيف التقط الإذاعيون فى الآونة الأخيرة عدوى أقرانهم فى التليفزيون وزادوا عليها، فدأب بعضهم على فرض رأيه على الضيوف بفجاجة لم تعهد مِن قبل، وعلى مقاطعتهم بدعوى تلقى اتصالات هاتفية لا يمكنها الانتظار، كما انتشرت بينهم عادة المزاح فيما لا يتطلب مزاحا، وساد الاستخفاف بكل ما هو جاد. لم تقف منغصات الاستماع التى صارت تقليدية بمرور الوقت عند هذا الحد، بل امتدت لتشمل سوء اختيار المواد المقدمة على جميع المستويات، حتى فيما لا علاقة له بالسياسة وإملاءاتها.

•••

وسط عوادم السيارات التى استنشقها، قدمت المذيعة لمستمعيها طباخا شهيرا. قال «الشيف» محمد إنه سوف يعد وجبة عشاء بسيطة؛ قليلة المكونات، سهلة التحضير، ومناسبة لكل ربة بيت حائرة أمام فشلها فى اختيار طعام صحى، يقبل عليه الأبناء والبنات المحتاجون إلى تغذية سليمة. أكد الرجل، كما أكدت المذيعة من بعد، اختيار وصفة فى متناول الجميع.

«كلوب ساندوتش». هكذا أفصح «الشيف» عن وجبته المنتقاة وراح يعدد مزاياها: القيمة الغذائية المرتفعة، والإعجاب الذى تلاقيه من الأطفال وملائمتها لجميع الأسر صغيرة العدد وكبيرته، بينما غمرته المذيعة بعبارات الاحتفاء. لم تكن خطوات الإعداد صعبة، بل ربما لم تحتج من الأصل إلى طباخ محترف، مع ذلك أظنها خذلت قسما عريضا من المستمعات. استجمعت المكونات حين أعاد الشيف سردها، ورصصتها سريعا فى ورقة صغيرة مستندة إلى عجلة القيادة، كان عراك قد نشب بين سائقين على أولوية المرور فأوقف الشارع تماما: «خس، شرائح طماطم، ملعقة مايونيز كبيرة، شريحتى بيف، صدر دجاجة مقسم إلى شرائح مسلوقة، ثلاث قطع توست يبلغ سمك كل منها سنتيمتران ونصف». سرد الشيف محمد تلك المكونات مصحوبة مرة أخرى بوصف «بسيطة» وبعبارة «فى متناول الجميع»، ثم مضى يشرح كيف توضع الطبقات بالترتيب، واختتم حلقته: «بالهنا والشفا».

•••

دارت فى ذهنى تساؤلات سخيفة، مبعثها شدة حرارة الشمس وصراخ السائقين الذى علا على صوت الراديو. ارتكزت فى مجملها حول نوعية الأمهات التى يتوجه إليهن البرنامج. راودت مخيلتى بعض أمهات أراهن هنا وهناك؛ أمهات عاملات تتهللن لرغيف خبز إضافى، أو ثمرة فاكهة معطوبة. حاولت طرد الأفكار والأوصاف التى قد تستدعى اتهامات من قبيل الاشتراكية مثلا، لكنى رحت أفكر أيضا فى أمهات أخريات كثيرات جدا، أعرفهن حق المعرفة، تدخلن فى جمعية تلو أخرى كى تبتعن حقائب الدراسة للأبناء والبنات، وكى تدفعن مقابل حصولهم على الدروس الخصوصية الإجبارية. النسبة العظمى منهن قد تعجز عن رؤية مكونات وجبة الشيف محمد مجتمعة فى وقت واحد، وبعضهن تعجزن عن رؤية وجبة العشاء من الأساس. فكرت فى أمهات أعرفهن أيضا، تلحِقن أولادهن بمدارس دولية باهظة المصاريف، ولا تطعمنهم سوى أغذية عالية الجودة أغلبها مستورد، تتجاوز أثمانها منفردة الراتب الأساسى السنوى لموظف حكومى لا يزال يبحث عن رشوة معقولة. ترى أتهتم هذى أو هذى أو تلك على تباين طبقاتهن الاجتماعية بوجبة عشاء الشيف محمد؟

•••

يعرف عن الراديو أنه صديق دائم لربات البيوت، تتاح لهن متابعته دون مشقة فيما تؤدين أشغالهن اليومية، وأظنه يثبت فى بعض المرات كم بإمكانه أن يكون عدوا لا صديقا، مستفزا لا مسليا، منفصلا عن الواقع لا متماسا معه، والجعبة ملأى بالأمثلة.

تذكرت مع انتهاء البرنامج ملايين الشبان، قاطنى العشوائيات، الذين تقدم لهم وسائل الإعلام المسموعة والمرئية هداياها وحلولها السحرية كل يوم: إعلانات لا تنقطع عن منتجعات تحفها البحيرات الصناعية وحمامات السباحة، وملاعب الجولف. تحثهم على تملكها فورا ودون تردد كى تتحقق لهم السعادة الغائبة، وكأنما تجلت أزمتهم فى عدم جودة المنتجعات «الأخرى» المعروضة عليهم، وكأنما تلخصت حيرة الأمهات فى صعوبة انتقاء الطعام المناسب من بين اختيارات كثيرة فى متناول أيديهن، وكأنما لا يعانى الطرفان سوى ضيق الأفق والملل من التكرار والوفرة، حيرة المرفهين وفاحشى الثراء.

•••

أذكر أن المواد الإذاعية كانت ذات يوم أكثر قربا من واقع الحياة ومن احتياجات القطاع الأكبر من الناس، الذين يمثلون زبائنها المستديمين. اليوم أستمع إلى برامج تبدو كما لو كانت مصنوعة فى بلد آخر، لأشخاص آخرين، ثم وصلت إلينا عن طريق الخطأ.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات