الطاقة في الشرق الأوسط الجديد - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الخميس 29 مايو 2025 4:17 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

الطاقة في الشرق الأوسط الجديد

نشر فى : الإثنين 26 مايو 2025 - 9:05 م | آخر تحديث : الإثنين 26 مايو 2025 - 9:05 م

ضمن مقاربة، لا تعوزها الحصافة الجيوسياسية، أولت إسرائيل أهمية قصوى للطاقة فى استراتيجيتها الرامية إلى هندسة شرق أوسط جديد، فبموازاة محاولتها توظيف «دبلوماسية الطاقة» لتزويد سوريا ودول أخرى بالكهرباء والغاز، كشفت عن مخططها الملعون لابتزاز مصر، غازيا، انتقاما من الأخيرة، جراء تفانيها فى جهود وقف العدوان الإسرائيلى على غزة، منذ أكتوبر2023، وتصديها للمؤامرات الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية، عبر إبادة وتهجير الفلسطينيين.

 


‎كانت مصر قد أعلنت، عام 2018، تحقيق الاكتفاء الذاتى من الغاز الطبيعى، وقف استيراده، وبدء تصدير الغاز المسال، لتغدو مركزا إقليميا للطاقة. بيد أن تحولات من قبيل: زيادة الطلب المحلى بجريرة النمو السكانى المتواصل، ارتفاع درجات الحرارة خلال الصيف، وتراجع إنتاج حقول الغاز والنفط، قد فرضت واقعا مغايرا، ففى أواخر عام 2021، تقلص إنتاج الغاز الطبيعى من حقل ظهر وحقول أخرى، بنسبة 40%، فيما انخفض إنتاج النفط بنسبة 3%، ليغدو أدنى مستوى منذ أواخر سبعينيات القرن الماضى، كما انكمش إنتاج المكثفات بنسبة 18%، ليصبح الأقل منذ عقود، وبحلول العام 2023، تحولت مصر من مُصدُر للغاز، إلى مستورد له بكميات تخطت قيمتها خمسة مليارات دولار، كما هبطت عائدات صادراتها من الغاز الطبيعى والمسال من 2.56 مليار دولار، إلى 313.8 مليون.
‎تحت وطأة ذلك الخلل، لجأت مصر إلى استيراد الغاز الطبيعى من إسرائيل، لتلبية الطلب المحلى المتعاظم خلال الصيف، حيث أبرمت عام 2019، اتفاقا مدته عشر سنوات، لاستيراده، عبر خط أنابيب شرق المتوسط، ضمن صفقة بدأت بقيمة 15 مليار دولار، ثم تخطت 21 مليار، ومنذ فبراير الماضى، تتفاوض الحكومة مع نظيرتها الإسرائيلية لزيادة الواردات، بنحو 58%، اعتبارا من النصف الثانى من العام الجارى، لترتفع من 981 مليون قدم مكعبة يوميا، إلى 1.15 مليار، لاسيما وأن هناك اتفاقيات لزيادة هذه الواردات بنسبة 18% بداية من يناير 2025، ولمدة 11 عاما، ما يتيح لإسرائيل الاستئثار بربع واردات مصر الغازية.
‎على هيئات شتى، جاء الابتزاز الإسرائيلى للقاهرة، ففى مخالفة سافرة للعقد طويل الأجل الموقع بين الطرفين عام 2019، ردت إسرائيل على الطلب المصرى بزيادة واردات الغاز خلال شهرى، يونيو ويوليو المقبلين، لتأمين الاحتياجات المتفاقمة لمحطات الكهرباء وقطاع الصناعة خلال الصيف، بتأجيل تزويدها بـ 200 مليون قدم مكعب إضافية.
‎بعديد ذرائع، طفقت إسرائيل تبرر سياساتها الاستفزازية وغير القانونية، حيث تطالب بزيادة سعر توريد المليون وحدة حرارية بنسبة تتراوح ما بين 25% و40%، بحيث يقفز من6.7 دولار، إلى أكثر من تسعة دولارات، بينما يتراوح السعر سوق ما بين أربعة وخمسة دولارات، ناهيك عن التراجع المتواصل فى أسعار مشتقات الطاقة عالميا، وفى مسعى منها للتحايل على الاتفاقيات، التى تتضمن شروطا جزائية عقابية، تتذرع إسرائيل بأجواء «الظروف القاهرة»، كمثل تنفيذ أعمال الصيانة الدورية لخطوط أنابيب الغاز، إذ أخطرت القاهرة، فى 19 مايو، بوقف توريد 600 مليون قدم مكعبة يوميا، من إجمالى 1.2 مليار، لمدة تتراوح ما بين 10 إلى 15 يوما، بزعم إجراء عمليات الصيانة والتوسعة للخطوط، التى تربط آبار حقلى «تمار» و«ليفياثان» فى البحر المتوسط، لرفع معدلات التصدير إلى مصر من مليار قدم مكعبة يوميا، إلى مليار وستمائة مليون، مستفيدة من زيادة الطلب. ومؤخرا، توقعت تقارير دولية انخفاضا جديدا لصادرات الغاز الإسرائيلى لمصر، خلال شهرى يوليو وأغسطس المقبلين، مع تذرع إسرائيل باضطرارها إلى تلبية الطلب المتفاقم للاستهلاك المحلى صيفا.
‎تنطوى سياسة الابتزاز الإسرائيلية إزاء القاهرة، فى هذا الظرف الحساس، على أضرار بالغة للاقتصاد المصرى، فلقد تجاوز عجز الطاقة 11.3 مليار دولار العام الماضى، ما ضاعف عجز الحساب الجارى ليبلغ 6.2% من الناتج المحلى الإجمالى. كما اضطرت الحكومة إلى تقليص إمدادات الغاز الطبيعى لمصانع الأسمدة، الميثانول والبتروكيماويات بنسبة50%، اعتبارا من 19 مايو، ولمدة 15 يوما، ما تسبب فى انكماش معدلات التشغيل بالمصانع، وإذا ما طالت مدة التقليص، قد يتم قطع الإمدادات عن مصانع الأسمدة، أياما إضافية، لتوجيه الغاز الطبيعى إلى شركات إنتاج الكهرباء، القطاعات الصناعية والاستخدام المنزلى.
‎ ونتيجة لذلك، توقعت شركات الأسمدة والصناعات الكيماوية، انخفاض الإنتاج بنسبة 30% خلال الفترة المذكورة، بما يؤثر على الإمدادات المحلية وعوائد التصدير، وبينما تسعى مصر لإيجاد بدائل عبر استيراد الغاز المسال من قطر، الجزائر وروسيا، بحرا، يبقى الغاز الإسرائيلى هو الأرخص، حتى وإن زاد سعره، لأنه يأتى فى صورة غاز طبيعى عبر خط أنابيب مباشر، فى حين ستزداد تكلفة استيراد الغاز المسال، عبر البحر، من وجهات عدة، بنحو60 %.
‎ علاوة على أن إبرام تعاقدات بديلة مع موردين جدد، أوشراء شحنات عاجلة من الأسواق الفورية المتقلبة، سيستغرق دهرا. كما سيشكل ضغطا شديدا على موازنة الدولة، التى تعانى فجوة تمويلية خانقة وعجزا مربكا، ما قد يضطرها لاستجداء قروض خارجية لتمويل واردات الغاز، التى تناهز الخمسة مليارات دولار.
‎تمخضت زيادة واردات مصر الغازية بنسبة 103.3% خلال العام الماضى، بالتزامن مع فجاجة الابتزاز الإسرائيلى، عن تحفيز صانع القرار المصرى للتحرك فى اتجاهات عديدة، أبرزها:
‎أولا: زيادة الإنتاج المحلى: فبينما تبلغ احتياجات مصر اليومية من الغاز الطبيعى 6.3 مليار قدم مكعبة يوميا، لا يتخطى إنتاجها اليومى 4.2 مليار قدم، تستهدف الحكومة زيادتها بنهاية العام الجارى، لتبلغ 4.8 مليار، من خلال تنشيط عمل الحقول، كما أعلنت وزارة البترول تحسين شروط التعاقد مع الشركاء الأجانب، وإغراءهم بحوافز للعمل بالمناطق البكر عالية المخاطر، لتشجيعهم على ضخ مزيد من الاستثمارات فى أنشطة الاستكشاف والتنقيب عن الغاز والنفط، وبموازاة العمل على زيادة إنتاجية الحقول المصرية من الغاز الطبيعى، توسعت عمليات البحث والتنقيب عن النفط والغاز بالصحراء الغربية وخليج السويس، وتوقعت تقارير دولية فى فبراير الماضى، أن تشهد مصر طفرة إنتاجية تسمح بالتصدير، بعد تشغيل حقول «نرجس»، «نور»، و«الكنج»، عام 2027.
‎ثانيا: إيجاد بدائل لواردات الغاز الإسرائيلية، ففى خطوة غير مسبوقة، انبرت مصر فى توقيع عقود طويلة الأجل لاستيراد الغاز الطبيعى من قطر، مع إبرام اتفاقات لتعزيز التكامل بين البلدين فى مجالات البنية التحتية، البحث، الاستكشاف وزيادة الإنتاج بمناطق الامتياز التابعة لشركة قطر للطاقة بمصر، ومع تركيا، تم توقيع اتفاقيتين لتعزيز الشراكة بقطاع الطاقة، أولاهما، تتعلق بتطوير التعاون بمجالات استكشاف، تطوير وإنتاج الهيدروكربونات برا وبحرا، وثانيتهما، تتضمن تزويد تركيا لمصر بالكهرباء، مع إبرام عقد استئجار مصر وحدة إعادة تغويز تركية عائمة، ستوفر 500 مليون قدم مكعب يوميا من الغاز الطبيعى المسال المُعاد تغويزه، فى خطوة تعكس تحوّلا بعلاقات الطاقة بين البلدَين، عبر تعزيز أمن إمدادات الغاز الطبيعى لكليهما، مع تطبيق نموذج طاقوى مرن وفعال.
‎ثالثا: زيادة واردات الغاز المسال: فمع اقتراب ذروة الطلب على الغاز خلال الصيف، تستهدف القاهرة استيراد 155-160 شحنة هذا العام، بعقود طويلة الأجل، تمتد حتى عام2030، كما سارعت إلى تأمين البنية التحتية اللازمة. وتعد الوحدة التركية خامس سفينة تغويز تتعاقد عليها القاهرة منذ معاودتها استيراد الغاز المسال قبل ما يناهز العام، حيث أبرمت أربع اتفاقيات لاستجلاب وحدات عائمة لتخزين وإعادة تحويل الغاز الطبيعى المسال، لتعزيز قدرتها على استيعاب الغاز الطبيعى، واستيراد الغاز المسال، ومؤخرا، لجأت وزارة الكهرباء إلى زيادة الاعتماد على الوقود البديل، عبر ضخ السولار والمازوت لمحطات الكهرباء بنسبة 9%، مع استمرار هينمة الغاز الطبيعى كمصدر رئيس لتوليد الكهرباء، بنسبة 81%، كما تسعى الحكومة إلى زيادة نسبة الطاقة المتجددة، فى مزيج الطاقة من 11.6% حاليا، إلى 42% عام 2030.
‎لا أحسب أن التطلعات المصرية لتقويض سياسة الابتزاز الطاقوى الإسرائيلية حيالها، عبر تأمين الاستقلال الاستراتيجى لأمن الطاقة. استنادا إلى مقومات تؤهلها لتكون مركزًا إقليميًا للطاقة، كمثل احتياطيات الغاز الوفيرة، بنى تحتية، إمكانات لوجيستية وتقنية، وموقع استراتيجى حيوى. فلعمرى، تأبى المساعى المصرية، الحثيثة والمتنوعة بهذا المضمار، إلا التأسيس لنمط جديد من العلاقات بين القاهرة وأبرز القوى الفاعلة بالمنطقة، ما يشى بأن الحسابات الجديدة لأمن الطاقة، قد تعيد، حالة نضوجها، هندسة الاصطفافات وتوازنات القوى فى الإقليم.

التعليقات