أعجب المرايا - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 1:55 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أعجب المرايا

نشر فى : الخميس 26 يوليه 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 26 يوليه 2012 - 8:00 ص

كان عرضا سينمائيا استثنائيا حضرته فى قاعة صغيرة بمستشفى المعمورة للأمراض النفسية منذ سنوات بعيدة، تم إدخال المرضى وإجلاسهم فى أماكنهم كل مجموعة فى صف من المقاعد، مع مراعاة أن يكون الرجال منفصلين عن النساء بمسافات معقولة، واستغربت لوقوف بعض التومرجية بعصى طويلة جدا فى الممرين الجانبيين، وعندما سألت أحدهم لماذا هذه العصى، أخبرنى بابتسامة شبه ساخرة من قلة خبرتى كطبيب جديد أنها «للسيترة على الموكف يادُكتُر»، ولأننى كنت طبيبا جديدا بالفعل، فقد لزمت مكانى فى صمت أراقب ما سيحدث، وأدهشنى أن العرض بدأ دون إطفاء كامل للأنوار، لكن المشاهدة كانت مقبولة، وكان الفيلم هو «السفيرة عزيزة» الذى كان بالأبيض والأسود وقد تقادم كثيرا وسبق أن شاهدته وشاهده الناس لسنين عديدة، لكنه ظل لطيفا بالنسبة لى وبالنسبة لكثيرين، وإن بدا جديدا تماما بالنسبة للمرضى كأنهم يرونه لأول مرة، بدليل «الموكف» الذى كاد يخرج عن «السيترة» فعليا مع لحظات الاحتدام بالفيلم.

 

نتذكر هذا الفيلم الذى تتلخص قصته فى أن أحمد (شكرى سرحان) المدرس الشاب المغترب الذى يستأجر شقة تواجه شقة جزار شرس (عدلى كاسب) له أخت شابة جميلة اسمها عزيزة (سعاد حسنى) ويطلق الناس عليها اسم السفيرة عزيزة نظرا لأن شراسة ووحشية شقيقها الجزار تردع أى إنسان يحاول مجرد النظر إليها، ومع توالى مشاهد الفيلم تبدأ شرارة الحب فى التوهج بين قلبى أحمد وعزيزة، لكن الرعب من بطش الجزار يحاصر هذا الحب، إلى أن يُقبَض على الجزار فى جريمة لحوم مغشوشة، وتتألق شعلة الحب بين أحمد وعزيزة بتعاطف من زوجة الشقيق (وداد حمدى)، وعندما يخرج الجزار من السجن تتطور الأمور ويطلب أحمد يد عزيزة ويتزوجها فتكشف له عن استيلاء شقيقها على ميراثها وتجبُّره فى نهب حقها، وتحرض زوجها عليه لاستعادة حقوقها، وتحدث المواجهة ويشتبك الجزار وأحمد فى عراك مثير كان مشهده كافيا لتفجير (الموكف) فى صالة العرض، لولا يقظة التومرجية وعصيهم الطويلة التى كانت فى الواقع تهوِّش، ولا تضرب.

 

الذى أذهلنى حينها هو تفاعل المرضى، ومعظمهم من الفصاميين المزمنين المستقرة حالاتهم، وقد كانوا لا يتعاملون مع ما يشاهدونه كصور بل كواقع حى، وهى ظاهرة عرفتها كثيرا فيما بعد من تفاعل كثيرين من الفصاميين المزمنين مع ما يشاهدونه فى التليفزيون ويتعاملون معه كواقع يطل عليهم من نافذة ذلك الصندوق! فيحادثون المذيعين والمذيعات والضيوف بود إذا هجسوا أنهم يحسنون توجيه الكلام والإيماءات إليهم، ويشتمونهم إن تصوروا العكس. لكن العجيب مع التليفزيون هو توقف تفاعل المرضى على ما يدور فيه عند حدود الابتسام أو الشتم أو التلويح، وهو مالم يحدث فى ذلك العرض السينمائى فى مستشفى المعمورة.

 

وضح تعاطف النساء مع عزيزة وأحمد حتى أنهن كن يغادرن أماكنهن ليقفن تحت الشاشة معيِّنين أنفسهن مراقبات ينبهن الحبيبين إن أوشك الجزار المتوحش على الظهور: «خد بالك ياسى أحمد» «إجرى يا عزيزة»، وكن يتهللن كلما وقع الجزار فى مأزق، ويقفن منفعلات ليُكِلن له السباب كلما تجبر، أما فى مشهد اشتباكه مع أحمد فكن يدعين عليه كلما وجه ضربة للعاشق «إن شاالله تتقطع إيدك يامفترى»، أما الرجال فكان بعضهم يخرج منفعلا من مكانه ليساند أحمد فتعيدهم عصى التومرجية الطويلة إلى أماكنهم، وكان هناك مريض وحيد ضئيل جدا بحدبة بارزة على ظهره وصوت مُقرقِع، يشجع الجزار ولا يُخفى إعجابه به «ادِّيله. ادِّيله. خلص عليه. يا وَحش الوحوش ياجامد». وانتبهت إلى أننى أشاهد عرضين فى لحظة واحدة، أحدهما على الشاشة، والآخر فى القاعة، ولم أكن أدرك حينها أنهما سيعيشان معى ويصمدان، ليس فى مواجهة امتحان الزمن وحسب، بل فى ضوء اليقين بجدارة الفن كضرورة حياتية للبشر، وهو ما كشفت عنه أبحاث علمية مدهشة أماطت اللثام عن سرٍ عظيم فى أرهف وأخطر مكونات الكيان البشرى.

 

حتى منتصف التسعينيات من القرن المنصرم كان يُعتقد أن التأثر بمشاعر الآخرين حزنا أو فرحا، إنما يرجع إلى نوع من المحاكمة العقلية تحدث داخل أجهزتنا النفسية وجوهرها المخ، لكن هذا الاعتقاد غيَّره اكتشاف عَرَضيٌّ تم الوصول إليه أثناء تجارب كان يجريها الدكتور «جياكومو ريزولاتِّى» وفريقه البحثى على الخلايا العصبية المسئولة عن حركة اليد والفم فى أمخاخ نسانيس المكاك فى معامل فسيولوجيا الأعصاب بجامعة مدينة بارما الإيطالية، فعندما مد أحد النسانيس يده لتناول الطعام، رصدت المجسات المثبتة فى مخ نسناس آخر كان يشاهده الاستجابات العصبية نفسها فى مخ النسناس الأول، وأوضح هذا الاكتشاف أن تأثير المشاعر لاينتظر أية محاكمة عقلية من المتلقى مهما كان زمنها موجزا، بل ينتقل فورا إليه من مصدر التأثير وتتلقفه خلايا عصبية خاصة فى المخ سُميت «العصبونات المرآتية»mirror neurons تعكس ما تتلقفه من انفعالات الآخرين كما مرآة، وتعيد إنتاج ما يتعلق بهذه الانفعالات من ردود أفعال فسيولوجية داخل مستقبِلها فيعيش هذه الانفعالات كما لو كانت صادرا من أعماقه.

 

عندما أرسل الدكتور «ريزولاتى» وفريقه البحثى بنتائج اكتشافهم لمجلة «ناتشر» العلمية بعد ترجيح الوجود الوفير والغزير للخلايا المرآتية فى مخ الإنسان، رفضت المجلة النشر متعللة بأن «البحث بعيد عن الاهتمام العام»، لكن السنوات العشر التالية أثبتت سوء تقدير القائمين على هذه المجلة العلمية الشهيرة، فتوافُر التقنيات المتقدمة لدراسة تفاعلات مخ الإنسان وهو يعمل، مثل التصوير بالرنين المغناطيسى، قطعت بأن الاكتشاف المصادفة فى جامعة بارما الإيطالية جدير بتصدُّر أهم اكتشافات القرن العشرين فى مجال دراسة المخ والأعصاب، ويفتح نافذة واعدة كثيرا للكشف عن قوانين التواصل الإنسانى والتقمص العاطفى EMPATHY وأسباب أمراض محيرة كالتوحد، كما أدخل هذا الكشف الملهم مواضيع إبداع وتأثير الآداب والفنون فى متن البحث العلمى، لا من باب الفضول فحسب، بل من بوابة جدارة الآداب والفنون بدور يتجاوز الترفيه والتسلية إلى العلاج والوقاية النفسيين والارتقاء الوجدانى والروحى بالبشر، ومن ثم وجدت نفسى استعيد بإكبار ودهشة ما بدا لى هزليا فى عرض فيلم السفيرة عزيزة بقاعة صغيرة فى مستشفى المعمورة منذ سنوات بعيدة، وها أنذا أُعيد اكتشافه ببصيرة جديدة فى لحظة يواجَه فيها الأدب والفن بهجمات همجية جهول، لتجريمهما وتحريمهما والحط من شأنهما.

 

فى عام 2005، أى بعد اكتشاف الخلايا المرآتية فى المخ بعشرة أعوام، طور «جيوفانى بيوسينيو» وفريقه البحثى طريقة لدراسة استجابة هذه الخلايا المخية المرآتية من خارج الجمجمة تسمى التنبيه المغناطيسى عبر الجمجمة TMS لدراسة اضطرام هذه الخلايا بتأثير الصور أو الأصوات التى تنم عن الفعل دون حاجة لجراحات تثبيت أية مجسات فى أمخاخ المبحوثين، وفى 31 يناير 2008 نشر «آرثر جلنبرج» من جامعة ويسكنسن الأمريكية بحثا فى فصلية علم النفس التجريبى يثبت استجابة الجهاز العصبى المختص بالاستقبال وإحداث الأفعال، لتأثير اللغة المجردة التى تصف أفعالا، وتوالت الأبحاث المهتمة بدراسة سيكلوجية الخيال معمليا وعمليا لا نظريا، وثبت أننا عندما نقرأ رواية أو قصيدة أو نشاهد مسرحية أو فيلما، تضطرم خلايا عقولنا المرآتية بما تصفه أو تعبر عنه هذه القصائد أو الروايات أو الأفلام كما لو كانت تعكس واقعا حيا يحدث أمامنا وننفعل به. وهذا يعنى أننا مخلوقات مهيأة للتعامل مع الخيال بفعالية زودنا خالقنا سبحانه وتعالى بعتادها وعدتها. ومن ثم فإن تجريم وتحريم ونبذ الآداب والفنون على إطلاقها ليس إلَّا مجافاة للتسليم بإبداع الله فينا.

 

وبرغم اعتراض بعض العلماء على القول بالتفرد الوظيفى لهذه الخلايا المسماة بالمرآتية فى أمخاخنا وتفضيلهم لتعبير «النظام المرآتى» على اعتبار أن مناطق أخرى وخلايا أخرى فى المخ مهيأة للقيام بالدور المرآتى نفسه، فإن الموافقين والمعترضين يجتمعون على أن هذه المرآتية العصبية لها غاية أن نحس بأفراح وأتراح الآخرين، أن نتأثر وننفعل ونعيش معاناتهم، ومن ثم نتخذ مواقف أو نصل لقناعات يرسخها هذا التأثر الذى يكون أكثر عمقا وقوة عند اقتران الجمال بالصراع، أى بالدراما التى هى أساس كل فن، وما الآداب والفنون الرفيعة كلها إلا مؤسَّسة على هذا الاقتران.

 

وإذا كانت الخلايا المرآتية فى عقول مرضى مستشفى المعمورة الذين حضرت معهم عرض فيلم «السفيرة عزيزة» قد اضطرمت أكثر مما ينبغى بأحداث الفيلم، كون هؤلاء المرضى كما معظم المرضى العقليين فى المراحل المتقدمة، لا يفصلون بين الواقع والمُتخيَّل، فإن بقية الناس يكون اضطرام خلاياهم هذه معتدلا ومفجرا لينابيع التأثر الإنسانى بالإنسانى، ومن ثم يأتى الارتقاء الروحى والنفسى والقيمى بما يمثل علاجا ووقاية ذاتيين من داء التبلد وانقطاع التواصل وتشظى النفوس، وهذا غاية كل أدب وفن جميلين، وحكمة خالق خلايا المخ المرآتية المعجزة فى أدمغتنا.

 

ومع ذلك كله، يظل هناك فريقان لايحترمان عظمة خلق هذه المرايا الحية فى تكويننا الإنسانى: المتعصبون المتزمتون المعادون لكل أدب وفن بمزاعم وتأويلات لاتعكس إلا فظاظة مشاعرهم ونزوعهم العدوانى «السيكوباتى» المعادى للمجتمع، وصُناع الأدب الردىء والفن المُبتذل الذين لايقلون فى سيكوباتيتهم عن الفريق الأول.

 

ورمضان كريم

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .