منذ نحو خمسة وعشرين عامًا، بينما كنت طالبًا فى برنامج الماجستير بمعهد دراسات التنمية بجامعة ساسكس البريطانية، لاحظت أن هناك زميلا متقدما فى العمر، مقارنة بالدارسين الذين لم تتجاوز أعمارهم الثلاثين عامًا، وكان من اليسير ملاحظته فى قاعة دراسية صغيرة، حيث لم يزد عدد الدارسين على عشرين شخصًا. وبمرور الوقت، تعرفت عليه عن قرب، اسمه «مارك»، لم أعد أتذكر اسم عائلته، كان يشغل منصبًا مهمًا فى البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة على مستوى قارة إفريقيا، ولديه سجل حافل من العمل فى مجال التنمية فى هيئات ومؤسسات دولية، وبعد أن بلغ سن التقاعد، قرر أن ينخرط فى برنامج لدراسة الماجستير، والمفاجأة، فى مجال التنمية الذى يُعد خبيرًا متميزًا فيه.
تذكرت «مارك»، وملاحظاته، ونقاشاته فى قاعة د. سهير القلماوى بكلية الآداب جامعة القاهرة، عندما حضرت مناقشة رسالة الماجستير التى تقدمت بها الكاتبة إيمان رسلان، وهى صحفية متميزة فى مؤسسة دار الهلال، وتكتب فى صحف ومجلات عديدة. شخصية مثقفة، يسارية الهوى، متعددة الاهتمامات، تقرأ وتكتب فى شتى مجالات الثقافة، ومن أهم المجالات التى تخصصت وأبدعت فيها هو ملف التعليم، ليس بوصفها صحفية تنقل تصريحات وزراء التعليم المتعاقبين، أو البيانات الصحفية الصادرة عن وزارة التعليم، ولكن من خلال نظرة عميقة، وكتابات نقدية لا تصدر إلا عن باحثة، ومثقفة، ولذلك لم تكن محل قبول من بعض وزراء التعليم الذين عاصرتهم، بينما كان البعض الآخر يقدرها، ويعرف مكانتها.
جاءت رسالة الماجستير بعنوان «التعليم النخبوى بين الأصول اليونانية والطرح المعاصر: دراسة نقدية مقارنة»، وناقشها عدد من الأكاديميين المثقفين د. سامى نصار، ود. أنور مغيث، ومشرفتها د. هدى الخولى، وكان الالتقاء بين الفلسفة والتعليم حاضرا فى وجدان باحثة تؤرقها قيم الحرية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة، والاستنارة. ومن اليونان القديمة حتى النظريات المعاصرة فى مجال الفلسفة ناقشت إيمان رسلان تعليم النخبة خلف الأسوار، وتعليم العامة فى سياق التأكيد على أهمية التعليم فى العبور من مجتمع النخبة الضيق إلى عالم الجماهير الرحب. اللافت أن الباحثة، وهى من أوساط النخبة بالمعنى الاقتصادى والاجتماعى، تجد نفسها فى صفوف الجماهير بالمعنى السياسى والثقافى، وهى حالة مركبة شديدة الثراء، تظهر فيها منحازة لتعليم الفقراء فى مواجهة اختزال التعليم فى النخبة، سواء وراء أسوار اليونان القديمة، أو من خلال التفرقة بين تعليم النخبة الراقى، وتعليم العامة الفنى، تلك الازدواجيات التى لم يعد لها محل فى المجتمع الحديث، وتعبر عن التشوه فى بنية النظام التعليمى الذى يجسد اضطراب الهياكل الاجتماعية فى الوقت الراهن.
نضحت الرسالة بموقف الباحثة الواضح، فهى ليست من الباحثين الذين يتمسحون بالموضوعية حتى يخفون انحيازهم، ومواقفهم الفكرية، ولا هى من نوعية الكتاب الذين لا يتبنون قضية، وتجدهم بلا لون، لكنها كانت واضحة، ربما أكثر مما يجب فى الحقل الأكاديمى، ومنحازة لمبادئها ربما أكثر مما هو معتاد عليه فى مثل هذه الدراسات، مما جعل رسالتها العلمية فريدة فى موضوعها، والقضايا التى طرحتها، والتى لم يغب واقع النظام التعليمى فى مصر عنها، ويكفيها أن الرسالة العلمية جاءت متسقة مع موقفها الفكرى، وخبراتها الصحفية، واهتماماتها العامة، ولم يكن مستغربًا أن تنال تقدير امتياز على عملها، بعد مناقشة ثرية، غلب عليها العمق، والثقافة، والمعرفة، وغابت عنها الشكليات الفارغة. أحاط بالمناقشة أجواء الأسرة المهنية والسياسية، والأخوات والأبناء والحفيدة ليلى، التى كانت تتأمل جدتها وهى ترتدى «الروب»، رداء المناقشة الأكاديمية، ولم تكن تدرى أنها تناقش موضوعًا يخصها، هى وأبناء جيلها.