بركات أبو حريبة - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 2:43 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بركات أبو حريبة

نشر فى : السبت 28 يناير 2023 - 8:35 م | آخر تحديث : السبت 28 يناير 2023 - 8:35 م
المسجد خالٍ سوى من قط أسود سمين فى حالة تأهب. يعرف طريقه عن ظهر قلب. يتنقل بخفة وثقة شديدة فى أرجاء المكان الذى ينتمى له. عيناه الخضراوان تسطعان بضوء لا يضاهيه إلا أشعة الشمس التى تتخلل شبابيك الجص المفرغ المعشق بالزجاج الملون، أعلى الجدران. يُنادى له «عثمان»، وحقيقة من النادر أن يليق اسم بصاحبه إلى هذا الحد، كأنه ولد لكى يكون «عثمان»، قط ذكر فحل يفرض شخصيته على من حوله وعلى المبنى الأثرى المهيب ذى الطراز المملوكى، له حضور لا تلتقطه الكاميرات فهو نابع من روحه الوثابة. يجرى على «الساباط» أو الممر الطويل المسقوف الذى يربط بين جزأى الجامع المميز بسماته المعمارية والزخرفية، فهو واحد من المساجد المعلقة، بُنى مرتفعا عن مستوى الطريق فى منطقة الدرب الأحمر على قطعتين من الأرض بينهما شارع وتربط بينهما قنطرة لكى تسهل على الناس طريقهم فيتحركون بيسر بين الجامع والضريح الذى تعلوه قبة من ناحية والسبيل الذى يعلوه كُتاب من ناحية أخرى. أما أسفل الواجهات الأربعة فتوجد مجموعة من الدكاكين التجارية التى أنشئت مع المسجد بين عامى 1480 و1481 ميلاديا لكى تؤجر ويُستغل ريعها فى الإنفاق على صيانة وإصلاح هذا الصرح الخيرى.
«عثمان» إذا يعيش حياته ذهابا وإيابا على أرض مملوكية بالأساس، فالجامع المرسوم على ورقة الخمسين جنيها والمعروف بمسجد أبو حُريبة بناه الأمير سيف الدين قجماس الإسحاقى أحد أمراء المماليك الجراكسة الذى تقلد عدة مناصب إلى أن صار «أميرا خورا كبيرا» أى المشرف على إسطبلات السلطان قايتباى فى القرن الخامس عشر الميلادى. أبطال القصة غابوا فى جوف التاريخ ولم يبق منهم سوى هذه المبانى القديمة التى تقاوم الفناء، لكن ظهور «عثمان» باسمه وحضوره المباغت يستدعى أصواتا من الماضى لرجال يرفعون أكفهم إلى السماء ويدعون الله بخوف: «يا رب لا تجمع علينا الطاعون وابن عثمان فى وقت واحد!»، هذا بعض ما ورد فى الكتب حول الصراع بين قوات المماليك والعثمانيين أو جيش ابن عثمان كما كانوا يقولون، حين نشبت الحروب بين السلطان بايزيد الثانى ــ والد سليم ــ وبين السلطان قايتباى الذى حكم تسعة وعشرين عاما، وهى من أطول عهود دولة المماليك الجراكسة الذين تولوا أمور البلاد خلال 134 سنة.
• • •
فى ذلك العصر كثرت المساجد والخانقاوات لتتماشى مع انتشار ظاهرة التصوف، عمت الأسبلة الشوارع لتروى ظمأ العطشى، وغالبا ما كانت تعلوها الكتاتيب لتعليم الصغار، ويشهد وجود العديد من أحواض شرب الدواب أيضا على الرغبة فى فعل الخير والتقرب إلى الله، وهو ما يتوافر فى جامع الخمسين جنيها كما يُطلق عليه الناس، إذ يجسد ملامح العصر ومعماره المتأثر بالفن السلجوقى، فلا تزال «الأَبلة» التى تجاوز عمرها الثمانين تأتى يوميا من نحو التاسعة صباحا إلى الثانية ظهرا لكى تعلم الأطفال القراءة والكتابة، ولا تزال المحال التجارية ماثلة فى مكانها، يرص بائع الطرشى بضاعته بألوانها الزاهية أمام المدخل، أما حوض شرب الدواب فقد حل بدلا منه دكان صغير لتصليح الأحذية، تعلم صاحبه مثلما والده وأمه فى الكُتاب نفسه. ارتبطوا بالمكان وصاحبيه وعرفوا تاريخه عن غيب وما هو متداول عنه من روايات، فيحكى مثلا عن أبو حريبة الشيخ الصوفى المدفون أسفل القبة، داخل الجامع، وكيف كان مقيما للذكر فى جامع قجماس، وحين توفى بعد مرضه عن عمر يناهز ستين عاما، توقفت جنازته الحافلة أمام المسجد ولم يتحرك التابوت، فكانت الإشارة بأن يُدفن فى الضريح الذى كان مخصصا لقجماس الإسحاقى، لكنه ظل خاويا لسنوات، إذ توفى الأمير المملوكى فى الشام حيث كان نائبا للسلطان ودُفن بها، بعدما عُرف بمآثره لكسر عسكر بنى عثمان.
يتمسح القط بالمقام، يحك رأسه فى غطائه الأخضر، قبل أن يخرج إلى النور. يموء بصوت عال فيأمره صاحب الدكان بالصمت، كى يستكمل حديثه حول قجماس وتواضعه وشجاعته، وحول ورع الشيخ أبو حريبة الذى اعتقد الناس فى بركته وكان يرفض أن يقبّل أحد يده ويمشى صامتا ناظرا إلى الأرض. تتلمذ على يده شيخ الجامع الأزهر، إبراهيم الباجورى، وأخذ عنه الطريقة النقشبندية ثم الطريقة الختمية، كما أخذ عنه آخرون معارفه بعلوم الميقات والرياضيات وكل ما يلزم الشيخ والمريد من استحضارات عقلية وآداب، منذ أن جاء إلى القاهرة من قريته «شنتنا الحجر» فى المنوفية، لذا اشتهر باسم «حريبة الشنتناوى». يستمر الحديث من موضوع لآخر وصولا إلى قايتباى الذى أحب الأسفار وترك آثارا له فى العديد من البقاع رغم قسوته أحيانا، إذ كان يلجأ إلى فرض ضرائب إضافية على الشعب لاختلال أحوال البلاد المالية وحاجته للأموال بسبب نفقات الحروب.
• • •
يثب القط أعلى السور فيلفت الانتباه إلى جزء متهدم فى إحدى الواجهات، أصابه الضرر أخيرا ويحتاج إلى ترميم، وقد ثبتت به الأخشاب فى انتظار أن يتم اللازم لإنقاذ المبنى. المصادفة وحدها جعلت القط الذى يُسمى «عثمان» يسرح ويمرح فى أملاك أحد أمراء المماليك، والمصادفة وحدها جعلت جامع الخمسين جنيها يئن خلال الفترة نفسها التى يعانى فيها الجنيه بشدة وينهار أمام العملات الأخرى. ربما صارت فئة الخمسين جنيها هى الأكثر تداولا بعد التعويم وارتفاع الأسعار، نحملها فى جيوبنا ويلازمنا معها مسجد قجماس أو «أبو حريبة» الذى نحتاج لبركاته وكل من سبقوه. حين تم التفكير فى طرحها خلال السبعينيات كان ذلك فى إطار الاحتياج المتزايد لأوراق النقد بغرض تسهيل المعاملات الناجمة عن النشاط الاقتصادى وتطبيق سياسة الانفتاح، صدرت على هذا النحو فئة العشرين جنيها فى 1977، والمائة فى 1979، أما فئة الخمسين بشكلها الحالى فقد تأخر ظهورها إلى 1993، وكانت أول عملة مصرية بالكامل من التصميم حتى إنتاج اللوحات والطباعة. من فترة تردد كلام حول طرح خمسين جنيها جديدة فى صورة بلاستيكية كما حدث مع العشرة جنيهات، إلا أن البنك المركزى نفى ذلك، واحتفظنا بالخمسين الورقية وعليها صورة أبو حريبة وما زلنا فى انتظار بركته، كما ينتظر مسجده إنقاذا سريعا.
التعليقات