البونَص - نيفين مسعد - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 6:30 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البونَص

نشر فى : الخميس 29 ديسمبر 2022 - 7:15 م | آخر تحديث : الخميس 29 ديسمبر 2022 - 7:15 م

اعتادت الشركات والبنوك- التي تحقق أرباحًا من تعاملاتها- أن تصرف مبالغ مالية على سبيل المكافأة لموظفيها في نهاية كل سنة مالية وأحيانًا أخرى عند نهاية كل سنة ميلادية، على أساس أن الأرباح هي حصيلة عمل الجميع. وعادةً ما كان يشار إلى تلك المكافآت المالية بوصف الحوافز والأرباح. وأحيانًا كانت تتم مكافأة الموظفين المثاليين بحوافز استثنائية، ثم بالتدريج دخل قاموسنا العربي مصطلح بونَص للتعبير عن كل أشكال التقدير المادي للعاملين، مثلما دخلت من قبل مصطلحات أجنبية أخرى كثيرة كبدائل لكلمات عربية، ولم يعد يحتاج منّا الأمر إلى أي شرح بحيث إنه متى قال لنا فلان إنه حصل على بونَص نفهم على الفور أن مؤسسته قرّرَت أن تكافئه. وإذا انتقلنا لمجال التعليم سنجد أن الطلاب كانوا يحصلون على درجات تضاف لمجموعهم في حالات معيّنة، كأن يكونوا مثلًا من المتفوقين في أي لعبة رياضية فيكون القصد من مكافأتهم التشجيع على تكوين أجيال جديدة رياضية قوية البنية، أو يكونوا قد درسوا مستوى أعلى من إحدى اللغات الأجنبية وبالتالي تأتي مكافأتهم لتحثّ المزيد من الشباب على إتقان اللغات الأجنبية، والتأكيد على أن كل لغة أجنبية هي نافذة ثقافية جديدة. هذا النوع من المكافآت كان يُطلَق عليه درجات التفوق أو المستوى الرفيع، لكن أبدًا لم يكن من الشائع الإشارة إلى الدرجات الإضافية بوصفها بونَص وذلك احترامًا للمسافة الفاصلة بين العملين التجاري والمصرفي من جهة والتحصيل العلمي من جهة أخرى. ثم تمر الأيام ويدخل مصطلح البونَص بكل قوة إلى مجال التعليم الجامعي، وأصبح كل الطلاب يسألون سؤالًا واحدًا مع شئ من التنويع في صياغته: هل هناك بونَص؟ أين البونَص؟ هو حضرتك مش حاتدينا بونَص؟ صار البونَص حولنا في كل مكان.
•••
من فرط إلحاح الطلاب في السؤال على البونَص يشعر الأستاذ الجامعي وكأنه يمشي وفي حقيبته وجيوبه مجموعة كبيرة من البونَص جاهزة لتوزيعها على أصحاب النصيب. وهؤلاء الذين يطالبون بالبونص لا يُشتَرَط فيهم أن يكونوا قد قاموا بجهد إضافي يستحقون المكافأة عليه، كأن يكونوا قد شاركوا في النقاش داخل المحاضرة مثلًا، أو قاموا بجهد تطوّعي في أحد الأنشطة الثقافية بالكلية، أو حتى واظبوا على حضور المحاضرات بعد أن صار هذا الحضور شحيحًا وبالتالي يجد الطلاب المنتظمون تحقيقًا للعدالة أن يكون هناك نوع ما من التمييز الإيجابي لصالحهم. أقول لا يُشتَرَط أن يكون المطالبون بالبونص من تلك الفئة من الطلاب المجتهدين، لكن من الممكن أن يكونوا من المقصّرين، كأن لا يحسنوا مثلًا إعداد ورقة بحثية صغيرة في أحد موضوعات المقرّر الدراسي، بحيث إن لم تأت درجة البحث على هواهم يقترب منك أحدهم ويسألك مبتسمًا: هو مش ممكن ناخد بونَص يا دكتور؟ لا أحب السؤال عن البونَص لأنه في ثانية واحدة يهدم المعبد على رأسي، فلو كان الطالب يستحق درجة إضافية على بحثه فلماذا حرمته منها أصلًا، هل أنا شريرة؟ وإن لم يكن يستحقها لأنه لم يبذل فيها جهدًا أو مارس السرقة العلمية أو لم يلتزم بموعد التسليم المحدّد أو لم يستوف معايير التقويم المتعارف عليها، فلماذا هو يفترض أنني سأقوم بإعطائه بونَص على تقصيره في أداء واجبه، هل أنا ساذجة؟ وإذا كنت سأماشيه في مبدأ البونص وقررت تعميم المكافأة على جميع الطلّاب بدون استثناء فأي قيمة ستكون للتفوق مع القيام بتوزيع الخير على الجميع، هل أنا بابا نويل؟
•••
إن الذي يشتغل بالتعليم الجامعي في هذه الأيام يرى العجب والصيام في رجب، وبالتأكيد فإن هذا العجَب موجود أيضًا في التعليم قبل الجامعي، لكنه ليس مجالي ولا أكتب إلا حول ما أعرف. على أيامنا كانت درجات المقررات من عشرين، وكان العام الدراسي متصلًا لا توجد فيه اختبارات فصلية في الشتاء والربيع، الامتحان واحد في الصيف فقط. كان هذا مرهقًا بالطبع لأن معناه أن يجلس الطالب منّا في نهاية العام لاستدعاء معلومات درسها قبل خمسة أو ستة شهور مثلًا ونسى منها ما نساه، لكنه كان يتيح لنا أن نهضم المقرر جيدًا وندرس موضوعاته واحدة واحدة على مدار العام. وكان الامتحان يتم داخل خيمة تُنصَب أمام الكلية وكان هذا يزيد من حجم المعاناة في ظل ارتفاع درجة حرارة الجو وعدم وجود أجهزة تكييف وربما حتى ولا مراوح، لكن قواعد العمل كانت سهلة وبسيطة: عدد محدود من المقررات، وامتحان واحد لكل مقرّر من عشرين درجة. الآن جدّت على الأمور أمور، أضيف للمقررات الإجبارية مقررات اختيارية بسبب الأخذ بنظام الساعات المعتمدة، وأصبح الطلاب يمتحنون أربع مرات كل عام: في منتصف كل فصل دراسي وفي نهايته، وارتفعت درجات المقرر الواحد إلى مائة درجة، على أن يتّم تخصيص ثلاثين درجة من هذه الدرجات لأعمال السنة من قبيل تكليف الطلاب بتحليل نقدي لمقالات مهمة أو اجتيازهم اختبارات سريعة يسمونها "كويز". وكل هذا النظام المعقّد أدّى إلى كثرة عدد الدرجات التي يحتاج إليها الطالب سواء للنجاح أو للتفوق، مما فتحَ الباب واسعًا أمام الإلحاح على طلب البونَص.
•••
حتى لا يُفاجأ طلابي بأنني سأكتب عن ملاحقتهم لي بطلب البونص أخبرتهم أني سأفعل ذلك في مقال اليوم الجمعة بجريدة الشروق، وفي الحقيقة فإنني كنت أريد بذلك أن أحمي نفسي من الملاحقة مع اقتراب موعد امتحانات نهاية الفصل الدراسي الأول- حيث يحلوّ جدًا الكلام عن البونَص. ارتسمَت معالم الدهشة على وجوه طلابي ما بين مَن يتشكك فيما أقول ويعتبره من قبيل التهويش لا أكثر، ومَن يتعجّب أصلًا من تعجّبي من موضوع البونص ولا يدري ما الذي يضايقني منه بالضبط. رحتُ ألقي المحاضرة كالمعتاد، وكان الموضوع عن النظام السياسي الجزائري بين الثابت والمتغيّر: السياق التاريخي والاقتصاد الريعي والقوى الفاعلة والمؤثرات الخارجية وكل الكلام الكبير الذي يتكلمه المتخصصون في العلوم السياسية. ثمانون دقيقة على هذا الحال دون توقّف، وأخيرًا بدأ الطلاب ينظرون نظرات ذات مغزى إلى الساعة المثبتة على الحائط. نبّهتني نظراتهم إلى انتهاء موعد المحاضرة، فبدأتُ أجمع أوراقي المبعثرة على وعد بلقاء في المحاضرة القادمة والأخيرة، وعند باب المدرّج وقفَت مجموعة من الطلاب تتهامس وتنتظر خروجي. يبدو أن هناك أمرًا جللًا يستدعي تجمّعهم وحديثهم الخافت. تطوّع أحدهم بسؤالي وبراءة الأطفال تبدو في عينيه: هو امتحان "الفاينال" مش حايكون فيه بونَص؟ وكأني سمعت في الأجواء هتافات الأول من مايو: المنحة يا ريّس!

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات