حكاية ميم - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 8:11 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حكاية ميم

نشر فى : الخميس 30 مارس 2023 - 8:30 م | آخر تحديث : الخميس 30 مارس 2023 - 8:30 م
هذا هو المقال الخامس عشر في مشروع كتابي عن "الشخصية القبطية في الأدب المصري"، ومقال هذا الأسبوع عن رواية "حكاية ميم" للأديب مايكل بشرى. والرواية صادرة عام ٢٠٢١ عن دار إيبيدي للنشر. وعند تحليل هذه الرواية الضخمة التي تقع في ٤٥٢ صفحة وتعّج بتفاصيل الأشخاص والأماكن والأشياء بما يزيد كثيرًا عن الحاجة، يمكن القول إنها تحمل ملامح الموجة الجديدة في التعبير عن المجتمع القبطي بعد ثورة يناير، وأخصّ من هذه الملامح ثلاثة: ارتياد مجالات مهجورة أو سبق ارتيادها لكن بحذر، ونبرة النقد العالية سواء عند مقاربة الأوضاع المجتمعية أو عند مقاربة الأوضاع الكنسية، وأخيرًا الإيمان بدور المرأة واعتبارها هي المخلّصة أو مصدر التحرير. ومن خلال استعراض أحداث الرواية سوف تتضّح الملامح المشتركة بين رواية بشرى والروايات الأخرى التي تدور أحداثها حول شخصية/ شخصيات قبطية.
• • •
يمتلك عطا الله عبد المسيح ورشة لإصلاح سيارات ربع النقل والجرارات، فتح هذه الورشة في ساحة منزله في شارع كعابيش بحي الطوابق-فيصل. وعطا الله هو رجل شهواني إلى حد اللعنة وتقوده ملذاته إلى أبعد مدى يمكن تخيّله، رُزِق من زوجته ثنية بنصف دستة أطفال، خمسة منهم بنات، أما الطفل السادس فوُلد بعيب خلقي جعل من الصعب تمييز جنسه عند الولادة. أُسقط في يد عطا الله، وهداه تفكيره الشرير إلى أن يودع الطفل المسكين مجهول الهوية الجنسية أمام دير القديس فرانسيس، وعاد ليواجه ثورة زوجته العارمة ويحاول احتواءها بتبريرات مختلفة أهمها أن في رقبته خمس بنات ولا قِبَل له بتحمّل المزيد من الأعباء. في دير القديس فرانسيس المخصّص للذكور، أطلق أبونا بيير، وهو راهب إيطالي، على الضيف الجديد اسم ماريو، وعندما علم أنه بلا أعضاء تناسلية اعتبر أن وجوده في الدير بركة، وأن الله يرضى عن طريقة تعبّد رهبان الدير ونسكهم ولذلك قام بإهدائهم ذلك المخلوق المقدّس. وعلى هذا النحو ظل التعامل مع ماريو لمدة أحد عشر عامًا، فله مكانة مميّزة في الدير، ولا يُكلّف بما يُكلَف به أقرانه من أعباء، بل ويأتي إليه الرهبان يسألونه الرأي الديني والفلسفي في أمور تعضلهم وهو مذهول. لكن عندما بلغ ماريو عامه الثاني عشر ودخل في مرحلة المراهقة، بدأت تظهر عليه معالم الأنوثة، وبالتالي كان على الأب بيير أن يتخلّص منه بنقله لدير يستقبل الفتيات فقط، وبالفعل ساعدته صديقته القديمة الأخت ناعومي على تحقيق ما يريد، وانتقل ماريو إلى دير سانت كلارا للفتيات وتم تغيير اسمه من ماريو لماريا. لاحقًا سوف تتصدّى إعلامية شاطرة- هي لبنى السلحدار- لموضوع تغيير الهوية الجنسية في مصر أو ما أسمته الرواية "عمليات تغيير المسار"، وستقود تحقيقات لبنى إلى الدكتور جرجس حنّا وهو طبيب مصري/ ألماني يأتي مصر كل عام لإجراء عمليات التحويل من الذكورة للأنوثة وبالعكس حسب الطلب. ومن خلال صفقة سيتم الاتفاق مع دكتور جرجس حنّا حين وقع في قبضة الأمن المصري، على أن يجري عملية تحويل لماريا كي تصبح امرأة مكتملة الأنوثة مقابل عدم سجنه بتهمة إجرائه عمليات التحويل بطرق غير مشروعة (وهي طبعًا صفقة تبدو غير منطقية لكن الأدب لا يتقيّد بالمنطق)، وبعد أن يتّم ذلك فعلًا يتزوج جرجس من ماريا. هذا باختصار شديد جدًا ملخّص رواية "حكاية ميم".
• • •
وكما هو واضح فإن الرواية تخوض في منطقة شائكة للغاية، وتجعلنا من اللحظة الأولى نتعاطف مع شخصية ماريو أو ماريا التي يوجد أكثر من مبرر لمعاناتها، فهي تعاني بصفتها قبطية في مجتمع يضيق صدره بقبول التنوّع على كل المستويات، وتعاني بصفتها كائن غير مكتمل الأعضاء ومحروم من ممارسة حياته بشكل طبيعي مثل باقي الناس، فهذه الشخصية بقبطيتها ونقصانها الجسدي رهينة محبسين، أو كما قال عطا الله مخاطبًا وليده قبل أن يتخلّص منه "يا ولدي كيف ستحيا وسط عالَم لا يضطهد سوى الغريبين والمهمشين؟". فإن أضفنا لذلك أن ماريو تحوّل إلى ماريا وصار امرأة أضفنا سببًا ثالثًا لمعاناة الأنثى في سياق اجتماعي ذكوري بامتياز. وبالتالي فإنها جرأة بلا شك تُحسب لمايكل بشرى وهو يخوض في موضوع يفضّل الجميع تجنّب الحديث فيه، فإن اضطروا لذلك لجأوا إلى التلميح. ودائمًا ما أذكر قصة فيلم "باحب السيما" كلما وجدتُ عملًا أدبيًا جديدًا يتناول موضوعات لها حساسيتها ويكون أبطالها مسيحيين، ففي الفيلم المذكور كان تصوير زوجة خائنة مدعاة لغضب عارم في الأوساط الكنسية باعتبار أن المرأة المسيحية لا تخطئ، فما أبعد اليوم عن البارحة، وذلك أن ما حال بين ماريا بطلة "حكاية ميم" وبين إقامة علاقة كاملة مع ماكسيميليان زميلها القديم في دير القدّيس فرانسيس- كان هو تركيبتها الجسدية وليست قيمها الأخلاقية ولا حتى تربيتها داخل الدير، فالقيم ليست حكرًا على دين دون آخر.
• • •
ثم أن مايكل بشرى ينفُذ إلى داخل الأديرة ويصوّر لنا كيف تسير الحياة، وهناك شغل كثير سابق على هذا الموضوع نجده في أعمال أدباء أقباط كبار أمثال روبير الفارس ومن ذلك روايته "صلاة القتَلَة". إن الدير معناه التقشف والزهد هذا مفهوم، وبالتالي طبيعي أن تثور الأم ڤيرونيكا في دير سانت كلارا إن وجدَت بنات الدير يضعن المساحيق، بل وخارج أسوار الدير فإن هذا موجود في مدارس الراهبات وكل المدارس التي تتحلّى بدرجة من الانضباط. لكن غير المفهوم ما يشير له المؤلف عن دفاتر التوفير الخاصة بالأولاد والبنات الموجودين في الأديرة والتي لا يعلمون عنها شيئًا، رغم أن مصدر أموال تلك الدفاتر يأتي من المعونات الداخلية والخارجية. كذلك يتناول مايكل بشرى النزعة الاستغلالية للقائمين على بعض الأديرة للأولاد والبنات الموجودين في الداخل، ففي دير سانت كلارا كانت البنات يعملن لأكثر من عشر ساعات في اليوم لاستصلاح الأرض الجديدة التي يشتريها الدير وحرثها وحصاد ثمارها، ومع ذلك لا يوجد حد أقصى لساعات العمل لا في الزراعة ولا في النسيج. وهكذا عندما وردت إلى الأم ڤيرونيكا طلبية إضافية لتوريد المزيد من الأقمشة التي تصنعها بنات الدير، وكان هذا يعني إضافة ساعات عمل أخرى للساعات العشر "انحبس دم البنات وسقط عليهن الكلام كصخرة" فلقد "انكفأت رؤوسهن وانحنت ظهورهن وتهرّأت أناملهن وانتابتهن تشوّشات في حدّة النظر" فما بالنا حين يعملن لساعات أطول؟. إن الأيتام والصغار هم خامة مثالية للاستغلال بغّض النظر عن الخلفية الدينية. ثم أن مايكل بشرى يعرّفنا على الأجواء التي قادت بعض أبطاله للترهبن، لكن لأن باب الدير هو باب دوّار حتى وإن كان محميًا بأسوار عالية، فلقد خرج منه عدد من هؤلاء الأبطال عند تغيّر ظروفهم. هرب ماكسيميليان من دير القدّيس فرانسيس جريًا وراء ماريا وكان يغريها هي الأخرى بالهرب. وقبل أن تلتحق الأخت ناعومي بدير سانت كلارا كانت تربطها علاقة حب بالأب بيير قبل ترهبنه هو الآخر وتولّيه مسؤولية دير القديس فرانسيس، لكن بعد أن افترقا اختار كل منهما طريق الرهبنة ليعود بيير ويهجر الدير مجددًا ويطارد ناعومي التي انتقلت للخدمة في أحد الأديرة بالسويد ضمن برنامج تبادل الإرساليات. أما ماريا التي انتقلَت من دير الأولاد لدير البنات، ثم تركَت الأخير، فلقد فكّرت في العودة مجددًا للرهبنة لكن زواجها من الدكتور جرجس حنّا جعلها تغيّر رأيها. ومن المؤكّد أنه يوجد ترهبن عن اقتناع، ومؤكّد أن هناك مَن قضوا حياتهم كلها في الدير ولم يستخدموا الباب الدوّار، لكن العوامل الذاتية لا يمكن إغفالها أيضًا.
• • •
والمرأة عند مايكل بشرى هي مفتاح التغيير والثورة بغّض النظر عن اتجاه التغيير ومسار الثورة، وهذا يذكّرنا برواية "الرقص على أرغن الرّب" لمارك أمجد، والتي جعل فيها امرأة تتزّعم جماعة الأمة القبطية بعد إحيائها. ففي رواية "حكاية ميم"، تتزّعم الطالبة الجامعية ناعومي مظاهرات يناير ١٩٧٧ وتهتف بصوت رنّان في الطلاب داخل المدرّج، حتى إذا اقتحم جنود الأمن المركزي الجامعة، ووقفوا على أبواب المدرّج وأطلقوا الغاز المسيل للدموع، تدافع الطلاب وكادت تفقد ناعومي حياتها بعد أن سقطَت على الأرض. وعندما ترهبنَت فيما بعد، واستقبلَت ماريا الفتاة البائسة المطرودة من دير الأولاد وهي في الثانية عشرة من عمرها، حوّلت ناعومي بوصلة شغفها بالتغيير في اتجاه هذه الفتاة، واستخدَمَت في تحقيق ذلك كل الحيل الممكنة: كسرَت عقدة الطفلة من لفظ جسد عندما وضعت لها صورة مارلين مونرو على جدار غرفتها في الدير (ولو أن هذا التصرَف يبدو غريبًا على دير في الحقيقة)، وأقنعَتها بأنها على خلاف البنات الأخريات اللائي يعشن العمر كله خائفات من فقدان عذريتهن فإنها ليس لديها ما تخاف عليه أصلًا. وبلغ من تأثيرها العميق على ماريا أن هذه الفتاة عندما عرضوا عليها أن تخضع لعملية تحويل مسار على يد الدكتور جرجس حنّا قاوَمَت في البداية بعد أن اقتنعَت أنها مخلوقة مكتملة رغم نقصانها العضوي، وسيكون هذا الاقتناع هو السبب الذي دفع الدكتور جرجس حنّا للارتباط بها، لأنه وجد في رجاحة عقلها وقوة منطقها ما لم يجده في كل ما قرأه من كتب. وبالتوازي مع شخصية ناعومي هذه المرأة الراهبة القوية، كانت شخصية الإعلامية المرموقة لبنى السلحدار التي وضعَت نفسها في مرمى الخطر، منذ أن قرَرَت ارتياد الملاهي الليلية التي يقصدها المثليون والمتحوّلون جنسيًا بحثًا عن معلومات تقودها إلى الدكتور جرجس حنّا. وفي حالة ناعومي كما في حالة لبنى السلحدار سنجد أن بيير الذي أحبّ الأولى وأحمد يونس المحامي الذي أحب الثانية عانيا من العلاقة مع امرأتين طموحتين وشجاعتين، وكانا أقل إقدامًا منهما، وهذا يصدق على بيير بالذات الذي تهكّم عدة مرات على ناعومي قائلًا إنه لا يريد أن يدفع حياته ثمنًا لمغامراتها أو يجد نفسه وراء القضبان.
• • •
إنها رواية جديدة وجريئة في معالجتها الأدبية المختلفة للشخصية القبطية. أما من حيث الجوانب الفنيّة في الرواية فلقد لفتت انتباهي ملاحظة غريبة هي التناقض بين كمّ الألفاظ العربية الفصيحة المقعرّة التي أعترف أنني قابلتها لأول مرة في حياتي واضطررت للجوء للمعجم لتدقيق معناها، وكمّ الألفاظ الغربية المعرّبة بما يتجاوز المألوف في القصّ الأدبي. وهكذا وجدنا في "حكاية ميم" مفردات مثل: فغَم بمعنى ملأ (فغمَت رائحة العرق الجحيمية)، ومُهرشَمًا بمعنى رخوًا (البلدوزارات تدور وتزمجر وتُصدر عجيجًا يصلها خافتًا مهرشمًا)، ومأبون بمعنى شخص متهّم بعيب أو وصمة (صوت رجل مأبون)، والزَهَم بمعنى السمن والدسم (خرج حاملًا معه زهم الصهد الذي يبثّه وابور النار). كما وجَدنا في الوقت نفسه بعض المفردات مثل: ريستات المطاعم، والفوليميكيب، والنايت كلابس، والميمو والكانات والأونر، والفيست(أي الچاكت). وكأن مايكل بشرى أراد بذلك أن يكمل غرابة موضوع روايته وإثارتها بغرابة أسلوبه الأدبي وجمعه بين المتناقضات.
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات