من الطبيعى أن يتمايل الناس فى بلادى على أنغام أغنية شعبية تقول (يا حليوة يا واد انت..يا حليوة). ولكن أن يفعلها الناس فى قرية أمريكية تبعد آلاف الأميال عن صعيد مصر دون أن يعرفوا معانى الكلمات، ومع ذلك تهزهم النغمات فهذا ما لم أصدقه وأنا أدلف إلى (مسرح باول سنتر)حيث مركز الأنشطة الطلابية بجامعة ألفريد بنيويورك.
الناس تسرع من حولى للحاق بمقاعدهم فى المسرح الكبير ليتمتعوا بمشاهدة عرض الرقص الشرقى الذى تقدمه فرقة مكونة من طالبات جامعة ألفريد، ولم استطع أن أحجز مكانا إلا فى الصف الأخير، وفجأة لاحظ البعض وجودى أثناء العرض فصاحوا: هيا ترجمى لنا معانى الكلمات فهذه لغتك! أجبت باستعلاء من تشعر أنه ليس سواها فى المكان من يدرك سر هذا الجمال: «لن يصل صوتى فى هذا الضجيج أترجم لكم فيما بعد!!»
وفى الصباح جاءتنى (جولى) رئيسة الفرقة الراقصة، وهى احدى طالباتى فى ذات الوقت، لتسألنى هل أعجبنى رقصها، فقلت: «طبعا فأنت والفرقة تبذلن جهدا وتتمتعن برشاقة، ولكن حركتكن الراقصة تتسم بالميكانيكية، ولا أظننى بقادرة على شرح سمات الرقص الشرقى.. لكننى لا أجد مثلا (دلع) بناتنا ولا حساسيتهن للإيقاع واللحن»، فقالت: «هل لديك تفسير يساعدنا فى تطوير مهاراتنا فى الرقص الشرقى؟»، قلت: «لعل ثقافة الحياء التى تمنع الفتاة الشرقية من التعبير الحر عن مشاعرها العاطفية هى التى تدفعها إلى أن تجد سبيلا للتعبير الفنى الصادق والشديد الحساسية فى الرقص، الذى يتيح لها انفراجة تتحرر من خلالها من القيود الاجتماعية المفروضة على حرية التعبير عند البنت».
ولأن (جولى) أخذت المسألة بجد ورأت فى تفسيرى ما يستحق الاهتمام، فقررت أن تجمع الفرقة الراقصة فى المسرح وتدعونى لعرض خاص أكون فيه المتفرجة الوحيدة لأقوم بالتعليق على الأداء. ومن جانبى أحضرت (سى دى) لبعض الأغنيات الشعبية المصرية الصميمة لأضعها فى (غرفة الكنترول) بالمسرح، وقامت الفتيات بالرقص وهن يراقبن ملاحظاتى باهتمام وتوتر شديدين. وكنت فى هذه اللحظة قد اكتشفت أن دورى فى التبادل الثقافى يتعدى المدرج والتدريس ويصبح أقوى تأثيرا إذا ما اتجه إلى نواحى الفن والجمال التى تفتح سبلا للتلاقى الإنسانى والتفاعل. وعندما أعادتنى (جولى) بسيارتها إلى منزلى عند منتصف الليل ذهبت للنوم وأنا أشعر بأن الحياة يمكن أن تحتوى جمالا لم أشهده من قبل.
فى الصباح رأيت فى بريدى الالكترونى وعلى موقع الجامعة عبارات تقول: «نشكرك على ما قدمته لنا من حب وعلى ما أتحته لنا من معرفة بثقافتك وشعبك، فلقد استطعت أن تغيرى فى زمن محدود أفكارنا الزائفة عن انغلاق أفق شعوبكم وعن عنفكم وعدوانيتكم، واكتشفنا أن الحصول على المعلومات عن العرب والمسلمين لا يأتى من كتب مأجورة أو من دعاية كاذبة، فالتعايش والاحتكاك المباشرين هما سبيل المعرفة الحقيقية».
وكان رئيس قسم العلوم السياسية، وهو رئيسى المباشر قد استقبل بعض طلابى الذين أتوا ليفاجئوه بأنهم لم يعودوا يصدقون ما قاله لهم من قبل عن العرب. وكان الرجل لا يكف عن دعوة المتحدثين من إسرائيل ليحاضروا بالجامعة، ليساهموا فى تشكيل العقل الأمريكى للأجيال القادمة فى اتجاه العداء للعرب، وكان ينظم الرحلات إلى إسرائيل للطلاب ويرفض أن تشمل الرحلة زيارة قصيرة إلى مصر بدعوى الخوف على حياتهم من الهجمات الإرهابية. وكانت الخريطة الوحيدة التى توفرها الجامعة لاستخدمها فى التدريس تؤكد أن مصر دولة عربية حاربت إسرائيل أربع مرات ثم أقامت معها معاهدة سلام.. هكذا دون أى تفاصيل؛ بحيث تبدو إسرائيل هى قلب الشرق الأوسط ومحور حركته!
وبدا (لارى جريل) غاضبا متجهما كلما لاحظ اجتماع الطلاب حولى وحرصهم على محاضراتى ولقاءاتى التى حفلت بالمعلومات التاريخية المفتقدة، فكان يرد لا تصدقوها لأنها جاءت بخطة لجذبكم إلى صف العرب والإسلام. ولاشك أنها تظهر لكم وجها طيبا فكونوا منها على حذر..!
وهكذا صار الصراع العربى الإسرائيلى ممثلا فى الحرب غير المعلنة بينى وبين (لارى) الذى لم يكن يكل يوما عن تعبئة التحيز ضد العرب.. فى المقابل كنت أؤدى واجبى تجاه الأبرياء من الشباب الأمريكى الذين افتقدوا إلى المعلومات الحقيقية عن ثقافتنا وشعوبنا وقضايانا، وأنا أشعر بالغضب لما تبديه أجهزتنا الرسمية وغير الرسمية من عدم اكتراث بممارسة الدور الواجب عليها تجاه نشر الوعى فى البلاد غير العربية، وبالذات فى أمريكا وأوروبا، بالحقائق التاريخية. وتذكرت شعر نزار قبانى:
يا أصدقائى.. جربوا أن تكسروا الأبواب
أن تغسلوا أفكاركم وتغسلوا الأثواب
يا أصدقائى.. جربوا أن تقرأوا كتاب.. أن تكتبوا كتاب
أن تبحروا إلى بلاد الثلج والضباب
فالناس يجهلونكم.. فى خارج السرداب
لم أكن أعلم أن الساعات التى أمضيتها مع فتيات فرقة الرقص الشرقى منذ عدة أيام قد أثارت فزع (لارى جريل) إلى الحد الذى جعله ينشر على موقع الجامعة الالكترونى أنه يدعو هيئة التدريس والطلاب وأهل القرية التى تقع بها الجامعة إلى محاضرته، التى ما إن قرأت عنوانها حتى أدركت أن ما من سلوك أقوم به، حتى التصرفات العفوية والتلقائية والخالية من الغرض، إلا وتؤخذ على محمل الجد وبتفسير تآمرى.. آه نسيت أن أخبركم بعنوان المحاضرة التى ألقاها لارى جريل كانت.
(الرقص فى إسرائيل).