عبر «بينوكيو» الصغير المصنوع من الخشب عما يجيش فى قلوب جميع أطفال العالم المتمدن من سخْط وكراهية للتعليم المدرسى، الذى يفرض على كل طفل أن يتخلى عن اللعب والمرح والحرية عند بلوغه السادسة، ليلتحق بالمدْرسة التى يضطر للاستيقاظ مبكرا ليهرع إليها مشيا على الأقدام بصحبة أحد الكبار الذى تتسع خطوته عن إمكانية طفل لم يتقن المشى إلا منذ فترة وجيزة. وما أن يدلف من باب مدرسته حتى تتسلمه سلطات المعلمين والإدارة المدرسية التى تخضع نشاطه الطفولى للنظام المدرسى «البغيض». فلا يتحرك إلا بإذن مسبق من «الكبار» الذين يحتكرون عينيه وأذنيه ويديه ليكتب ما يملى عليه من كلمات يكون عليه حفظها وترديدها عند الامتحان.
ويضطر الصغار إلى الخضوع التام لمؤسسة الكبار التى لا تتوانى عن عقابهم على أبسط الهفوات التى يرتكبونها بقصد أو بغير قصد. ويلاحظ الصغار أثناء تلك المعاناة أن مؤسسة «العائلة» التى كانت هى الملجأ والأمان والحضن الدافئ قبل الالتحاق بالمدرسة قد صارت داعمة لمؤسسة المدرسة القاسية. فالطعام والنوم واللعب يصبحون بمواعيد ثابتة تتفق مع الأوامر المدرسية، وكأن اللغة السائدة فى البيت والمدرسة قد صارت واحدة مع اختلاف المكان والأشخاص. وكان الكبار من مؤسستى المدرسة والأسرة لا يجتمعون إلا للشكوى من تمرد الصغار على التعليم والنظام والأوامر بصفة عامة، ومن تخلفهم الدراسى وتقاعسهم عن السعى للمعرفة. وقد حرص الجميع على ممارسة السلطة القهرية على الصغار لإعدادهم للمستقبل، الذين سيمارسون فيها الأدوار الاجتماعية والمهن المختلفة التى يطلبها المجتمع من رجاله ونسائه عندما يكبرون.
• • •
يأتى الحل السحرى من القصص والحواديت التى يحرص الصغار على الاستماع إليها ويهرعون إلى غرف الجدات ليلا لتحكين لهم تلك الحواديت التى ينغمس الصغار فى طيات سحرها، وأطياف خيالاتها. وهنا يمكن أن ندعى أن أدب الأطفال قد قام بدور تربوى أساسى فى حياة أطفال العالم كله. فكانت قصة (بينوكيو) الشهيرة والتى انتشرت فى خمسينيات القرن الماضى وقد ترجمت إلى أكثر من سبعين لغة، ومنها اللغة العربية طبعا، قد احتلت مكانها المميز فى الأدب العالمى للأطفال.
فلم يعد المعلم مضطرا إلى الضرب المبرح وتخويف الصغار. ولم يعد الوالدان بحاجة إلى اللجوء للعصا ليقوم الصغير بأداء الواجب ــ فقط صارت قصة (بينوكيو) بتفاصيلها الجذابة والمرعبة التى تقوم بدور تربوى يفوق دورى البيت والمدرسة معا.
ولشدة ذكاء المؤلف وقدرته على الإيحاء والمراوغة فإنه ينحت ويشكل أبطاله من عالم السحر والخيال. وذلك حتى يتفادى أن يكون «مباشرا» فيفطن الأطفال إلى غرضه التربوى وإصداره للأوامر التربوية المنشودة. فيقدم لعبة خشبية يحبها الأطفال دون قلق أو ريبة. ويجعلها تتصرف مثلهم. فيكتشفون فى سلوكها ما يشبه سلوكهم. ويرون فى أفكارها ما يماثل أفكارهم، وما يعتمل داخلهم من مشاعر.
ويقدم الكاتب صورة الأب الخيالية فى شخصية «النجار» صانع اللعب. فيحرص عند رسمه ملامح ذلك النجار أن يثير عطف الأطفال على ذلك المكافح الذى يبذل قصارى جهده فى «صنع» (بينوكيو) من الخشب، ويظل يحلم بتحويله إلى «ولد» حقيقى، كما يحرص الكاتب على تجسيد صورة الأم فى صورة الجنية الطيبة الطباع، والتى تسدى النصح دائما للصغير (بينوكيو) وهى تربت على ظهْره وتمنحه الحنان والحب ممزوجين بالمعرفة الواجبة والعلْم اللذين يحتاجهما (بينوكيو)، رغم عدم إدراكه للأغراض النبيلة لكل من «النجار» المكافح وللجنية الساحرة.
يلعب (بينوكيو) مع الصغار أمثاله ويشاركهم الرغبة العارمة فى ممارسة نمط الحياة الذى يحقق لهم المتعة الخالصة ويحررهم من مجموعة الأوامر السخيفة الصادرة عن مؤسسة الكبار. ويقوم الكاتب الماكر برصد أحلام الصغار فى اللعب والخروج على كل القواعد باختراعه لمدينة الألعاب التى يعيش فيها الأطفال بمنتهى الحرية وعلى هواهم، حيث يقيمون فى فنادق المدينة، ويمارسون كل أنواع الألعاب الشهيرة بالسيرك دون أى موانع ولأى عدد من الساعات. ولا يذهبون للنوم إلا عندما يتعبون من اللعب. ولا يظهر بهذه المدينة من اعتادوا إصدار الأوامر من الكبار.
• • •
لكن (بينوكيو) يكتشف مصدوما بأن العربات التى تحمل الأطفال السعداء إلى مدينة الأحلام، تلك كانت تشبه عربات الحنطور التى يجرها عدد ضخم من الحمير الصغيرة التى يقودها عجوز بدين ذو ملامح قاسية فى طرق وعرة تقاسى فيها الحمير الصغيرة من صعوبة السير بالأحمال الثقيلة من الأطفال ومن قسوة «العربجى» الذى كان يتلذذ بأن يلهب ظهور الحمير المسكينة بسوطه الحاد. وكانت دهشة (بينوكيو) بالغة عندما اكتشف أن الحمير الصغيرة تذرف الدموع بغزارة عندما تعبر عن معاناتها من الضربات المتتالية كما لو كانت بشرا يبكى.
وبالطبع لم يسافر (بينوكيو) إلى مدينة الألعاب وحيدا، وإنما صحبه إليها صديق ورفيق دراسة أغواه بالهرب من المدرسة ومن البيت لينطلقا إلى مدينة الأحلام. وفى لحظة الوصول إلى المدينة المنشودة، تصاعدت صيحات الرفاق الصغار وهم يصرخون فى مرح صاخب: ها قد وصلنا إلى حلمنا الجميل. وانطلقوا إلى الفندق يلقون بالحقائب فى الغرف المريحة المحجوزة لهم، ويتناولون أغلى الأطعمة قبل التوجه إلى الحدائق والمتنزهات العامرة بأدوات اللعب الحديثة المتنوعة التى تقافز حولها الأطفال من مختلف البلاد.
ولكن (بينوكيو) يصاب بالقلق على صديقه الذى سبقه إلى تلك المدينة عندما فوجئ به يترنح كل ليلة عند عودته إلى الفندق وعندما يصل إلى الحجرة المشتركة بينهما يفاجأ به يتأوه من الألم الذى يجعله ينحنى بظهره وهو يضغط على أذنيه بشدة وسأله (بينوكيو) قائلا: «منذ متى وأنت تعانى من آلامك تلك؟» فصاح الصديق: «هل يمكنك أن تساعدنى فى الهرب من تلك المدينة الملعونة؟». ولدهشته يلاحظ (بينوكيو) أن صديقه قد تبدلت ملامحه بالتدريج، فطالت أذناه وتقوس ظهره قليلا. وفى تلك اللحظة، اكتشف (بينوكيو) حقيقة الموقف المفزع الذى تورط فيه مع الصديق الذى سبقه إلى التجربة الصادمة. فاتجه إلى النافذة ليلحظ تبدل ملامح من سبقوهم إلى المدينة، وقد بدأوا التحول إلى حمير بعد أن هجروا المدرسة والتعليم إلى الفوضى واللعب. وهنا، يكتشف أن الحمير التى كانت تجر العربات لم تكن سوى الأطفال الذين تم إغواؤهم من قبل، وذهبوا إلى مدينة الألعاب منذ زمن بعيد.
لم يستأذن (بينوكيو) صاحبه بل جذبه من ذراعه لينطلقا فى الطريق الذى جاءا منه إلى خارج المدينة المرعبة والتى فقدت كل جمالها وسحرها بعد أن انكشفت حقيقة مصير المتهربين من المدرسة والعلم. ويكتشف جميع تلاميذ المدارس فى كل البلاد وهم يلهثون من الفزع أنهم بالعلم وحده يصلون إلى العلا، وأن عليهم بذل أقسى الجهد وسهر الليالى فى تحصيل العلوم والحساب، ليحققوا الرفعة والسعادة بعد أن انكشف لهم قبح الدلع والفوضى.
• • •
هنا ينبغى أن ننبه المعنيين بالتربية الأخلاقية إلى ضرورة الانتباه إلى الدور الفاعل للقصص والحواديت فى تشكيل شخصية الطفل ورؤيته الأخلاقية. وبالمقارنة بما يقدم لأطفالنا من أدب الأطفال، نجد حالة من الفجاجة المباشرة فى نقل القيم المجتمعية التى تدفع الصغار إلى الاغتراب الاجتماعى والعزلة، بدلا من التوحد بالقيم الاجتماعية الراقية. «فذكر إنما أنت مذكر.. لست عليهم بمسيطر».